( باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها )
 
قوله صلى الله عليه و سلم فى الطاعون [ 2218 ] ( أنه رجز أرسل على بنى اسرائيل أو على من كان قبلكم فاذا سمعتم به بأرضفلا تقدموا عليه واذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه ) وفى رواية أن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم ثم بقى بعد بالأرض فيذهب المرة ويأتى الأخرى فمن سمع به بأرض فلايقدمن عليه ومن وقع بأرض وهو بها فلايخرجنه الفرار منه وفى حديث عمر رضي الله عنه أن الوباء وقع بالشام أما الوباء فمهموز مقصور وممدود لغتان القصر أفصح وأشهر وأما الطاعون فهو قروح تخرج فى الجسد فتكون فى المرافق أو الآباط أو الأيدى أوالأصابع وسائر البدن ويكون معه ورم وألم شديد وتخرج تلك القروح مع لهيب ويسود ماحواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان القلب والقيء وأما الوباء فقال الخليل وغيره هو الطاعون وقال هو كل مرض عام والصحيح الذى قاله المحققون أنه مرض الكثيرين من الناس فى جهة من الأرض دون سائر الجهات ويكون مخالفا للمعتاد من أمراض فى الكثرة وغيرها ويكون مرضهم نوعا واحدا بخلاف سائر الأوقات فان أمراضهم فيها مختلفة قالوا وكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونا والوباء الذى وقع فى الشام فى زمن عمر كان طاعونا وهو طاعون عمواس وهى قرية معروفة بالشام وقد سبق فى شرح مقدمة الكتاب فى ذكر الضعفاء من الرواة عند ذكره طاعون الجارف بيان الطواعين وأزمانها وعددها وأما كنها ونفائس مما يتعلق بها وجاء فى هذه الأحاديث أنه أرسل على بنى إسرائيل أو من كان قبلكم عذابا لهم هذا الوصف بكونه عذابا مختص بمن كان قبلنا وأما هذه الأمة فهولها رحمة وشهادة ففى الصحيحين قوله صلى الله عليه و سلم المطعون شهيد وفى حديث آخر فى غير الصحيحين أن الطاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث فى بلده
(14/204)

صابرا يعلم أنه لن يصيبه الاما كتب الله له الاكان له مثل أجر شهيد وفى حديث اخر الطاعون شهادة لكل مسلم وإنما يكون شهادة لمن صبر كما بينه فى الحديث المذكور وفى هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون ومنع الخروج منه فرارا من ذلك أما الخروج لعارض فلابأس به وهذا الذى ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور قال القاضي هو قول الأكثرين قال حتى قالت عائشةالفرار منه كالفرار من الزحف قال ومنهم من جوز القدوم عليه والخروج منه فرارا قال وروى
(14/205)

هذا عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأنه ندم على رجوعه من سرغ وعن أبى موسى الأشعرى ومسروق والأسود بن هلال أنهم فروا من الطاعون وقال عمرو بن العاص فروا عن هذا الرجز فى الشعاب والأودية ورءوس الجبال فقال معاذ بل هو شهادة ورحمة ويتأول هؤلاء النهى على أنه لم ينه عن الدخول عليه والخروج منه مخافة أن يصيبه غير المقدر لكن مخافة الفتنة على الناس لئلا يظنوا أن هلاك القادم انما حصل بقدومه وسلامة الفار انما كانت
(14/206)

بفراره قالوا وهو من نحو النهى عن الطيرة والقرب من المجذوم وقد جاء عن بن مسعود قال الطاعون فتنة على المقيم والفار أما الفار فيقول فررت فنجوت وأما المقيم فيقول أقمت فمت وانما فر من لميأت أجله وأقام من حضر أجله والصحيح ما قدمناه من النهى عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة قال العلماء وهو قريب المعنى من قوله صلى الله عليه و سلم لاتتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فاذا لقيتموهم فاصبروا وفى هذا الحديث الاحتراز من المكاره وأسبابها وفيه التسليم لقضاء الله عند حلول الافات والله أعلم واتفقوا على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار ودليله صريح الأحاديث قوله فى رواية أبى النضر ( لا يخرجكم إلا فرار منه ) وقع فى بعض النسخ فرار بالرفع وفى بعضها فرارا بالنصب وكلاهما مشكل من حيث العربية والمعني قال القاضي وهذه الرواية ضعيفة عند أهل العربية مفسدة للمعنى
(14/207)

لأن ظاهرها المنع من الخروج لكل سبب إلا للفرار فلا منع منه وهذا ضد المراد وقال جماعة ان لفظة إلاهنا غلط من الراوى والصواب حذفها كما هو المعروف فى سائر الروايات قال القاضي وخرج بعض محققى العربية لرواية النصب وجها فقال هو منصوب على الحال قال ولفظة إلا هنا للإيجاب لا للاستثناء وتقديره لاتخرجوا اذا لم يكن خروجكم إلافرارا منه والله أعلم واعلم أن أحاديث الباب كلها من رواية أسامة بن زيد وذكر فى الطرق الثلاث فى آخر الباب ما يوهم أو يقتضى أنه من رواية سعد بن أبى وقاص عنالنبى صلى الله عليه و سلم قال القاضي وغيره هذا وهم انما هو من رواية سعد عن أسامة عن النبى صلى الله عليه و سلم والله أعلم قوله [ 2219 ] ( حتى اذا كان بسرغ لقيه أهل الاجناد ) أما سرغ فبسين مهملة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم غين معجمة وحكى القاضي وغيره أيضا فتح الراء والمشهور اسكانها ويجوز صرفه وتركه وهى قرية فى طرف الشام مما يلى الحجاز وقوله أهل الاجناد وفى غيره هذه الروايةأمراء الاجناد والمراد بالاجناد هنا مدن الشام الخمس وهى فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين هكذا فسروه واتفقوا عليه ومعلوم أن فلسطين اسم لناحية بيت المقدس والأردن اسم لناحية سيان وطبرية وما يتعلق بهما ولا يضر اطلاق اسم المدينة عليه قوله ( ادع لى المهاجرين
(14/208)

الأولين فدعا ثم دعا الأنصار ثم مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ) انما رتبهم هكذا على حسب فضائلهم قال القاضي المراد بالمهاجرين الأولين من صلى للقبلتين فأما من أسلم بعد تحويل القبلة فلايعد فيهم قال وأما مهاجرة الفتح فقيل هم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبل الفتح إذلاهجرة بعد الفتح وقيل هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده فحصل لهم اسم دون الفضيلة قال القاضي هذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم مشخة قريش وكان رجوع عمر رضى الله عنه لرجحان طرف الرجوع لكثرة القائلين وأنه أحوط ولم يكن مجرد تقليد لمسلمة الفتح لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الانصار أشاروا بالرجوع وبعضهم بالقدوم عليه وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأى مشيخة قريش فكثر القائلين به مع مالهم من السن والخبرة وكثرة التجارب وسداد الرأى وحجة الطائفين واضحة مبينة فى الحديث وهما مستمدان من أصلين فى الشرع أحدهما التوكل والتسليم للقضاء والثانى الاحتياط الحذر ومجانبة أسبابالالقاء باليد إلى التهلكة قال القاضي وقيل انما رجع عمر لحديث عبد الرحمن بن عوف كما قال مسلم هنا فى روايته عن بن شهاب ان سالم بن عبد الله قال ان عمر انما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف قالوا ولأنه لم يكن ليرجع
(14/209)

لرأى دون رأى حتى يجد علما وتأول هؤلاء قوله ( إني مصبح على ظهر فأصبحوا ) فقالوا أى مسافر إلى الجهة التى قصدناها أولا لا للرجوع إلى المدينة وهذا تأويل فاسد ومذهب ضعيف بل الصحيح الذى عليه الجمهور وهو ظاهر الحديث أو صريحه أنه إنما قصد الرجوع أولا بالاجتهاد حين رأى الأكثرين على ترك الرجوع مع فضيلة المشيرين به وما فيه من الاحتياط ثم بلغه حديث عبد الرحمن فحمدالله تعالى وشكره على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم أصحابه نص رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما قول مسلم انه انما رجع لحديث عبد الرحمن فيحتمل أن سالما لم يبلغه ما كان عمر عزم عليه من الرجوع قبل حديث عبد الرحمن له ويحتمل أنه أراد لم يرجع الابعد حديث عبد الرحمن والله أعلم قوله ( انى مصبح على ظهر فأصبحوا عليه ) هو باسكان الصاد فبهما أى مسافر راكب على ظهر الراحلة راجع إلى وطنى فأصبحوا عليه وتأهبوا له قوله ( فقال أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فقال عمر لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافة نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لوكان لك ابل فهبطت واديا له عدوتان احداهما خصيبة والأخرى جدبة أليس ان رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وان رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ) أما العدوة فبضم العين وكسرها وهى جانب الوادى والجدبة بفتح الجيم واسكان الدال المهملة وهى ضد الخصيبة وقال صاحب التحرير الجدبة هنا بسكون الدال وكسرها قال والخصبة كذلك أما قوله لو غيرك قالها ياأبا عبيدة فجواب لو محذوف وفى تقديره وجهان ذكرهما صاحب التحرير وغيره أحدهما لو قاله غيرك لأدبته لاعتراضه على في مسألة اجتهادية وافقنى عليها أكثر الناس وأهل الحل والعقد فيها والثاني
(14/210)

لو قالها غيرك لم أتعجب منه وانما أتعجب من قولك أنت ذلك مع ما أنت عليه من العلم والفضل ثم ذكر له عمر دليلا واضحا من القياس الجلى الذى لاشك فى صحبه وليس ذلك اعتقادا منه أن الرجوع يرد المقدور وانما معناه أن الله تعالى أمر بالاحتياط والحزم ومجانبة أسباب الهلاك كما أمر سبحانه بالتحصن من سلاح العدو وتجنب المهالك وان كان كل واقع فبقضاء الله وقدره السابق فى علمه وقاس عمر على رعى العدوتين لكونه واضحا لاينازع فيه أحد مع مساواته لمسألة النزاع قوله ( أكنت معجزه ) هو بفتح العين وتشديد الجيم أى تنسبه إلى العجز مقصود عمر أن الناس رعية لى استر عانيها الله تعالى فيجب على الاحتياط لها فان تركته نسبت إلى العجز واستوجبت العقوبة والله أعلم قوله ( هذا المحل أو قال هذا المنزل ) هما بمعنى وهو بفتح الحاء وكسرها والفتح أقبس فان ما كان على وزن فعل ومضارعه يفعل بضم ثالثه كان مصدره واسم الزمان والمكان منه مفعلا بالفتح كقعد يقعد مقعدا ونظائره إلاأحرفا شذت جاءت بالوجهين منها المحل قوله فى الاسناد ( عن مالك عن بن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس ) قال الدارقطني كذا قال مالك وقال معمر ويونس عن عبد الله بن الحارث قال والحديث صحيح على اختلافهم قال وقد أخرجه
(14/211)

مسلم من طريق يونس عن عبد الله بن الحارث وأما البخارى فلم يخرجه إلامن طريق مالك واعلم أن فى حديث عمر هذا فوائد كثيرة منها خروج الامام بنفسه فى ولايته فى بعض الأوقات ليشاهد أحوال رعيته ويزيل ظلم المظلوم ويكشف كرب المكروب ويسد خلة المحتاج ويقمع أهل الفساد ويخافه أهل البطالة والأذى والولاة ويحذروا تجسسه عليهم ووصول قبائحهم إليه فينكفوا ويقيم فى رعيته شعائر الاسلام ويؤدب من رآهم مخلين بذلك ولغير ذلك من المصالح ومنها تلقى الأمراء ووجوه الناس الامام عند قدومه وإعلامهم إياه بما حدث فى بلادهم من خير وشر ووباء ورخص وغلاء وشدة ورخاء وغير ذلك ومنها استحباب مشاورة أهل العلم والرأى فى الأمور الحادثة وتقديم أهل السابقة فى ذلك ومنها تنزيل الناس منازلهم وتقديم أهل الفضل على غيرهم والابتداء بهم فى المكارم ومنها جواز الاجتهاد فى الحروب ونحوها كما يجوز فى الأحكام ومنها قبول خبر الواحد فانهم قبلوا خبر عبد الرحمن ومنها صحة القياس وجواز العمل به ومنها ابتداء العالم بما عنده من العلم قبل أن يسأله كما فعل عبد الرحمن ومنها اجتناب أسباب الهلاك ومنها منع القدوم على الطاعون ومنع الفرار منه والله أعلم
(14/212)