( باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه )
 
وأجله وعمله وشقاوته وسعادته قوله [ 2643 ] ( حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه
(16/189)

في بطن أمه أربعين يوما ثم تكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم تكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) أما قوله الصادق المصدوق فمعناه الصادق في قوله المصدوق فيما يأتي من الوحي الكريم وأما قوله إن أحدكم فبكسر الهمزة على حكاية لفظه صلى الله عليه و سلم قوله بكتب رزقه هو بالباء الموحدة في اوله علي البدل من أربع وقوله شقي او سعيد مرفوع خبر مبتدأ محذوف اي وهو شقي أو سعيد قوله صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث ( ثم يرسل الملك ) ظاهره أن إرساله يكون بعد مائة وعشرين يوما وفي الرواية التي بعد هذه يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم باربعين او خمسة واربعين ليلة فيقول يارب أشقي أم سعيد وفي الرواية الثالثة اذا مر بالنطفة اثنتان واربعون ليلة بعث الله اليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها وفي رواية حذيفة بن أسيد إن النطفة تقع في الرحم اربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك وفي رواية ان ملكا موكلا بالرحم اذا اراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع واربعين ليلة وذكر الحديث وفي رواية أنس أن الله قد وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة قال العلماء طريق الجمع بين هذه الروايات أن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة وأنه يقول يارب هذه علقة هذه مضغة في أوقاتها فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله تعالى وهو اعلم سبحانه ولكلام الملك وتصرفه اوقات احدها حين يخلقها الله تعالى نطفة ثم ينقلها علقة وهو أول علم الملك بأنه ولد لانه ليس كل نطفة تصير ولدا وذلك عقب الاربعين الاولى وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته أو سعادته ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر وهو تصويره
(16/190)

وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه وكونه ذكرا أم أنثى وذلك انما يكون في الاربعين الثالثة وهي مدة المضغة وقبل انقضاء هذه الاربعين وقبل نفخ الروح فيه لان نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام صورته وأما قوله في إحدى الروايات فاذا مر بالنطفة اثنتان واربعون ليلة بعث الله اليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يارب أذكر ام أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يارب أجله فيقول ربك ماشاء ويكتب الملك وذكر رزقه فقال القاضي وغيره ليس هو على ظاهره ولا يصح حمله على ظاهره بل المراد بتصويرها وخلق سمعها إلى آخره انه يكتب ذلك ثم يفعله في وقت آخر لان التصوير عقب الاربعين الاولى غير موجود في العادة وانما يقع في الاربعين الثالثة وهي مدة المضغة كما قال الله تعالى ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم يكون للملك فيه تصوير آخر وهووقت نفخ الروح عقب الاربعين الثالثة حين يكمل له اربعة اشهر واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد اربعة اشهر ووقع في رواية للبخاري إن خلق احدكم يجمع في بطن أمه اربعين ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وشقي او سعيد ثم ينفخ فيه فقوله ثم يبعث بحرف ثم يقتضي تأخير كتب الملك هذه الامور إلى ما بعد الاربعين الثالثة والاحاديث الباقية تقتضي الكتب بعد الاربعين الاولى وجوابه ان قوله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن فيكتب معطوف على قوله يجمع في بطن أمه ومتعلق به لا بما قبله وهو قوله ثم يكون مضغة مثله ويكون قوله ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله معترضا بين المعطوف والمعطوف عليه وذلك جائز موجود في القرآن والحديث الصحيح وغيره من كلام العرب قال القاضي وغيره والمراد بارسال الملك في هذه الاشياء أمره بها وبالتصرف فيها بهذه الافعال وإلا فقد صرح في الحديث بأنه موكل بالرحم وانه يقول يارب نطفة يارب علقة قال القاضي وقوله في حديث أنس واذا أراد الله أن يقضي خلقا قال يارب أذكر أم أنثى شقي ام سعيد لا يخالف ما قدمناه ولا يلزم منه أن يقول ذلك بعد المضغة بل ابتداء للكلام وإخبار عن حالة اخرى فأخبر اولا بحال الملك مع النطفة ثم أخبر أن الله تعالى اذا أراد إظهار خلق النطفة علقة كان كذا وكذا ثم المراد بجميع ما ذكر من الرزق والأجل
(16/191)

والشقاوة والسعادة والعمل والذكورة والانوثة انه يظهر ذلك للملك ويأمره بإنفاذه وكتابته والا فقضاء الله تعالى سابق على ذلك وعلمه وارادته لكل ذلك موجود في الازل والله اعلم قوله صلى الله عليه و سلم ( فوالذي لا اله غيره ان احدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها وان احدكم ليعمل بعمل اهل النار الخ ) المراد بالذراع التمثيل للقرب من موته ودخوله عقبه وأن تلك الدار ما بقي بينه وبين ان يصلها الا كمن بقي بينه وبين موضع من الارض ذراع والمراد بهذا الحديث ان هذا قد يقع في نادر من الناس لا أنه غالب فيهم ثم انه من لطف الله تعالى وسعة رحمته انقلاب الناس من الشر إلى الخير في كثرة واما انقلابهم من الخير إلى الشر ففي غاية الندور ونهاية القلة وهو نحو قوله تعالى ان رحمتي سبقت غضبي وغلبت غضبي ويدخل في هذا من انقلب إلى عمل النار بكفر أو معصية لكن يختلفان في التخليد وعدمه فالكافر يخلد في النار والعاصي الذي مات موحدا لا يخلد فيها كما سبق تقريره وفي هذا الحديث تصريح باثبات القدر وأن التوبة تهدم الذنوب قبلها وأن من مات على شئ حكم له به من خير او شر الا ان اصحاب المعاصي غير الكفر
(16/192)

في المشيئة والله اعلم قوله [ 2644 ] ( عن حذيفة بن أسيد ) هو بفتح الهمزة قوله صلى الله عليه و سلم ( فيقول يارب أشقي او سعيد فيكتبان فيقول أي رب أذكر او أنثى فيكتبان ) يكتبان في
(16/193)

الموضعين بضم اوله ومعناه يكتب احدهما قوله [ 2645 ] ( دخلت على ابي سريحة ) هو بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالحاء المهملة قوله صلى الله عليه و سلم ( إن النطفة تقع في الرحم اربعين ليلة ثم يتصور عليها الملك ) هكذا هو جميع نسخ بلادنا يتصور بالصاد وذكر القاضي يتسور بالسين قال والمراد بيتسور ينزل وهو استعارة من تسورت الدار اذا نزلت فيها من أعلاها ولا يكون التسورالا من فوق فيحتمل ان تكون الصاد الواقعة في نسخ بلادنا مبدلة من السين والله اعلم
(16/194)

قوله [ 2647 ] ( فنكس فجعل ينكت بمخصرته ) اما نكس فبتخفيف الكاف وتشديدها لغتان فصيحتان يقال نكسه ينكسه فهو ناكس كقتله يقتله فهوقاتل ونكسه ينكسه تنكيسا فهو منكس اي خفض رأسه وطأطأ إلى الارض على هيئة المهموم وقوله ينكت بفتح الياء وضم الكاف وآخره تاء مثناة فوق اي يخط بها خطا يسيرا مرة بعد مرة وهذا فعل المفكر المهموم والمخصرة بكسر الميم ما أخذه الانسان بيده واختصره من عصا لطيفة وعكاز لطيف وغيرهما وفي هذه الاحاديث كلها دلالات ظاهرة لمذهب اهل السنة في اثبات القدر وأن جميع الواقعات
(16/195)

بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها نفعها وضرها وقد سبق في اول كتاب الايمان قطعة صالحة من هذا قال الله تعالى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فهو ملك لله تعالى يفعل ما يشاء ولا اعتراض على المالك في ملكه ولأن الله تعالى لا علة لافعاله قال الامام ابو المظفر السمعاني سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس ومجرد العقول فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة ولم يبلغ شفاء النفس ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب لان القدر سر من اسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الاستار اختص الله به وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة وواجبنا أن نقف حيث حد لنا ولا نتجاوزه وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم فلم يعلمه نبي مرسل ولاملك مقرب وقيل ان سر القدر ينكشف لهم اذا دخلوا الجنة ولا ينكشف قبل دخولها والله اعلم وفي هذه الاحاديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر بل تجب الاعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها وكل ميسر لما خلق له لا يقدر على غيره ومن كان من اهل السعادة يسره الله لعمل السعادة ومن كان من اهل الشقاوة يسره الله
(16/196)

لعملهم كما قال فسنيسره لليسرى وللعسرى وكما صرحت به هذه الاحاديث قوله [ 2648 ] ( جفت به الاقلام ) أي مضت به المقادير وسبق علم الله تعالى به وتمت كتابته في اللوح المحفوظ وجف القلم الذي
(16/197)

كتب به وامتنعت فيه الزيادة والنقصان قال العلماء وكتاب الله تعالى ولوحه وقلمه والصحف المذكورة في الاحاديث كل ذلك مما يجب الايمان به واما كيفية ذلك وصفته فعلمها إلى الله تعالى ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء والله أعلم قوله [ 2650 ] ( ما يعمل الناس ويكدحون فيه
(16/198)

أي يسعون والكدح هوالسعي في العمل سواء كان للآخرة أم للدنيا قوله 0لأحزر عقلك ) اي لأمتحن عقلك وفهمك ومعرفتك والله اعلم
(16/199)