( كتاب الجنة وصفة نعيمها واهلها )
 
( [ 2822 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) هكذا رواه مسلم حفت ووقع فى البخارى حفت ووقع فيه أيضا حجبت وكلاهما صحيح قال العلماء هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه التى أوتيها صلى الله عليه و سلم من التمثيل الحسن ومعناه لايوصل الجنة إلا بارتكاب المكاره والنار بالشهوات وكذلك هما محجوبتان بهما فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد فى العبادات والمواظبة عليها والصبر على مشاقها وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والاحسان إلى المسىء والصبر عن الشهوات ونحو ذلك وأما الشهوات التى النار محفوفة بها فالظاهر أنها الشهوات المحرمة كالخمر والزنا والنظر إلى الأجنبية والغيبة واستعمال الملاهى ونحو ذلك وأما الشهوات المباحة فلا تدخل فى هذه لكن يكره الاكثار منها مخافة أن يجر إلى المحرمة أو يقسى القلب أو يشغل عن الطاعات أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا )
(17/165)

للصرف فيها ونحوذلك [ 2824 ] قوله عز و جل ( أعددت لعبادى الصالحين ما لاعين رأت ولاأذن سمعت ولاخطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعكم الله عليه ) وفى بعض النسخ أطلعتكم عليه هكذا هو فى رواية أبى بكر بن أبى شيبة ذخرافى جميع النسخ وأما رواية هارون بن سعيد الأيلى المذكورة قبلها ففيها ذكر فى بعض النسخ وذخرا كالأول فى بعضها قال القاضي هذه رواية الأكثرين وهو أبين كالرواية الأخرى قال والأولى رواية الفارسى فأمابله فبفتح الباء الموحدة واسكان اللام ومعناها دع عنك ما أطلعكم عليه فالذي لم يطلعكم عليه اعظم وكانه اضر ب عنه استقلالاله فى جنب مالم يطلع عليه وقيل معناها غير وقيل معناها كيف [ 2826 ] [ 2827 ] قوله صلى الله عليه و سلم
(17/166)

( ان فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلها مائة سنة لايقطعها ) وفى رواية يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها قال العلماء والمراد بظلها كنفها وذراها وهو ما يستر أغصانها والمضمر بفتح الضاد والميم المشددة الذى ضمر ليشتد جريه وسبق فى كتاب الجهاد صفة التضمير قال القاضي ورواه بعضهم المضمر بكسر الميم الثانية صفة للراكب المضمر لفرسه
(17/167)

والمعروف هو الأول [ 2829 ] قوله تعالى ( أحل عليكم رضوانى ) قال القاضي فى المشارق أنزله بكم والرضوان بكسر الراء وضمها قرئ بهما فى السبع والكوكب الدرى فيه ثلاث لغات قرئ بهن فى السبع الأكثرون دري بضم الدال وتشديد الياء بلا همز والثانية بضم الدال مهموز ممدود والثالثة بكسر الدال مهموز ممدود وهو الكوكب العظيم قيل سمى دريا لبياضه كالدر وقيل لإضاءته وقيل لشبهه بالدر فى كونه أرفع من باقى النجوم كالدر أرفع الجواهر [ 2831 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( أن أهل الجنة
(17/168)

ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدرى الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم ) هكذا هو فى عامةالنسخ من الأفق قال القاضي لفظة من لابتداء الغاية ووقع فى رواية البخارى فى الأفق قال بعضهم وهو الصواب قال وذكر بعضهم أن من فى رواية مسلم لانتهاءالغاية وقد جاءت كذلك كقولهم رأيت الهلال من خلل السحاب قال القاضي وهذا صحيح ولكن حملهم لفظة من هنا على انتهاء الغاية غير مسلم بل هي على بابها أى كان ابتداء رؤيته أياه رؤيته من خلل السحاب ومن الأفق قال وقد جاء فى رواية عن بن ماهان على الأفق الغربى ومعنى الغابر الذاهب الماشى أى الذى تدلى للغروب وبعد عن العيون وروى فى غير صحيح مسلم الغارب بتقديم الراء وهو بمعنى ما ذكرناه وروى العازب بالعين المهملة والزاى ومعناه البعيد فى الأفق
(17/169)

وكلها راجعة إلى معنى واحد [ 2833 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( ان فى الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو فى وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا ) المراد بالسوق مجمع لهم يجتمعون كما يجتمع الناس فى الدنيا فى السوق ومعنى يأتونها كل جمعة أي في مقدار كل جمعة أى أسبوع وليس هناك حقيقة أسبوع لفقد الشمس والليل والنهار والسوق يذكر ويؤنث وهو أفصح وريح الشمال بفتح الشين والميم بغير همزة هكذا الرواية قال صاحب العين هي الشمال والشمال باسكان الميم مهموز والشأملة بهمزة قبل الميم والشمل بفتح الميم بغير ألف والشمول بفتح الشين وضم الميم وهى التى تأتى من دبر القبلة قال القاضي وخص ريح الجنة بالشمال لأنها ريح المطر عند العرب كانت
(17/170)

تهب من جهة الشام وبها يأتى سحاب المطر وكانوا يرجون السحابة الشامية وجاءت فى الحديث تسمية هذه الريح المثيرة أى المحركة لأنها تثير فى وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة وغيره من نعيمها [ 2834 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( ان أول زمرة تدخل الجنة هي على صورة القمر ليلة البدر والتى تليها على أضوء كوكب درى فى السماء لكل امرئ منهم زوجتان ما فى الجنة أعزب ) الزمرة الجماعة والدرى تقدم ضبطه وبيانه قريبا قوله صلى الله عليه و سلم ( زوجتان ) هكذا فى الروايات بالتاء وهى لغة متكررة فى الاحاديث وكلام العرب والأشهر حذفها وبه جاء القرآن وأكثر الأحاديث قوله ( وما فى الجنة أعزب ) هكذا فى جميع نسخ بلادنا أعزب بالألف وهى لغة والمشهور فى اللغة عزب بغير ألف ونقل القاضي أن جميع رواتهم رووه وما فى الجنة عزب بغير ألف الاالعذرى
(17/171)

فرواه بالألف قال القاضي وليس بشيء والعزب من لازوجة له والعزوب البعد وسمى عزبا لبعده عن النساء قال القاضي ظاهر هذا الحديث أن النساء أكثر أهل الجنة وفى الحديث الآخر أنهن أكثر أهل النار قال فيخرج من مجموع هذا أن النساء أكثر ولد آدم قال وهذا كله فى الآدميات والافقد جاء للواحد من أهل الجنة من الحور العدد الكثير قوله صلى الله عليه و سلم ( ورشحهم المسك ) أى عرقهم ( ومجامرهم الألوة ) بفتح الهمزة وضم اللام أى العود الهندى وسبق بيانه مبسوطا قوله صلى الله عليه و سلم ( أخلاقهم على خلق رجل واحد ) قد ذكر مسلم فى الكتاب اختلاف بن أبى شيبة وأبى كريب فى ضبطه فان بن أبى شيبة يرويه بضم الحاء واللام وأبو كريب بفتح الحاء واسكان اللام وكلاهما صحيح وقد اختلف فيه رواة صحيح البخاري ويرجح الضم بقوله في الحديث الآخر لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد وقد يرجح الفتح بقوله صلى الله عليه و سلم فى تمام الحديث على صورة أبيهم آدم أو على طوله قوله صلى الله عليه و سلم ( ولا يمتخطون
(17/172)

ولا يتفلون ) هو بكسر الفاء وضمها حكاهما الجوهرى وغيره وفى رواية لايبصقون وفي رواية لا يبزقون وكله بمعنى قوله صلى الله عليه و سلم ( يسبحون الله بكرة وعشيا ) أى قدرهما [ 2835 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( ان أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ) مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعما دائما لاآخر له ولاانقطاع أبدا وان تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا الاما بينهما من التفاضل فى اللذة والنفاسة التى لايشارك نعيم الدنيا الافى التسمية وأصل الهيئة والا فى أنهم لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبصقون وقد دلت دلائل القرآن والسنة فى هذه الأحاديث
(17/173)

التى ذكرها مسلم وغيره أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبدا [ 2836 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( من يدخل الجنة ينعم لايبأس ) وفى رواية ان لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا أى لا يصيبكم بأس وهو شدة الحال والبأس والبؤس والبأساء والبؤساء بمعنى وينعم وتنعم بفتح أوله والعين أى يدوم
(17/174)

لكم النعيم [ 2838 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( فى الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا فى كل زاوية منها أهل ) وفي رواية طولها فى السماء ستون ميلا أما الخيمة فبيت مربع من بيوت الأعراب وقوله صلى الله عليه و سلم من لؤلؤة مجوفة هكذا هو فى عامة النسخ مجوفة بالفاء قال القاضي وفى رواية السمرقندى مجوبة بالباء الموحدة وهى المثقوبة وهى بمعنى المجوفة والزاويةالجانب والناحية وفى الرواية الأولى عرضها ستون ميلا وفى الثانية طولها فى السماء ستون ميلا ولامعارضة بينهما فعرضها فى مساحة
(17/175)

ارضها وطولها فى السماء أى فى العلو متساويان [ 2839 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة ) اعلم أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون فأما سيحان وجيحان المذكوران فى هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة فى بلاد الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر إذنه وهما نهران عظيمان جدا أكبرهما جيحان فهذا هو الصواب فى موضعهما وأما قول الجوهرى فى صحاحه جيحان نهر بالشام فغلط أو أنه أراد المجاز من حيث أنه ببلاد الأرمن وهى مجاورة للشام قال الحازمى سيحان نهر عند المصيصة قال وهو غير سيحون وقال صاحب نهاية الغريب سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر وراء خراسان عند بلخ واتفقوا على أنه غير جيحان وكذلك سيحون غير سيحان وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الاسلام
(17/176)

فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففى كلامه انكار من أوجه أحدها قوله الفرات بالعراق وليس بالعراق بل هو فاصل بين الشام والجزيرة والثانى قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس كما سبق الثالث أنه ببلاد خراسان وأما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام والله أعلم وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض أحدهما أن الايمان عم بلادها أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة والثانى وهو الأصح أنها على ظاهرها وأن لها مادة من الجنة والجنة مخلوقة موجودة اليوم عندأهل السنة وقد ذكر مسلم فى كتاب الايمان فى حديث الاسراء أن الفرات والنيل يخرجان من الجنة وفى البخارى من أصل سدرة المنتهى [ 2840 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ) قيل مثلها فى رقتها وضعفها كالحديث الآخر أهل اليمن أرق قلوبا وأضعف أفئدة وقيل فى الخوف والهيبة والطير أكثر الحيوان خوفا وفزعا كما قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وكان المراد قوم غلب عليهم الخوف كما جاء عن جماعات من السلف فى شدة خوفهم وقيل المراد متوكلون والله أعلم قوله ( حدثنا حجاج بن الشاعر حدثنا أبو النضر حدثنا ابراهيم بن سعد حدثنا أبى عن أبى سلمة عن أبى هريرة ) هكذا وقع هذا الاسناد فى عامة النسخ ووقع فى بعضها حدثنا أبى عن الزهري عن أبى سلمة فزاد الزهري قال أبو على الغسانى والصواب هو الأول قال وكذلك خرجه أبو مسعود فى الآطراف قال ولا أعلم لسعد بن إبراهيم رواية عن الزهري وقال الدارقطنى فىكتاب العلل لم يتابع أبو النضر على وصله عن أبى هريرة قال والمحفوظ عن ابراهيم عن ابيه عن أبي سلمة مرسلا كذا رواه يعقوب وسعد بن ابراهيم بن سعد قال والمرسل الصواب هذا كلام الدارقطني والصحيح أن هذا الذى ذكره لايقدح فى صحة الحديث فقد سبق فى أول هذا الكتاب أن الحديث اذا روى متصلا ومرسلا كان محكوما
(17/177)

بوصله على المذهب الصحيح لأن مع الواصل زيادة علم حفظها ولم يحفظها من أرسله والله أعلم [ 2841 ] قوله صلى الله عليه و سلم ( خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا ) هذا الحديث سبق شرحه وبيان تأويله وهذه الرواية ظاهرة فى أن الضمير فى صورته عائد إلى آدم وأن المرادأنه خلق فى أول نشأته على صورته التى كان عليها فى الأرض وتوفى عليها وهى طوله ستون ذراعا ولم ينتقل أطوارا كذريته وكانت صورته فى الجنة هي صورته فى الأرض لم تتغير قوله ( قال اذهب فسلم على اولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فانها تحيتك وتحية ذريتك فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله ) فيه ان الوارد على جلوس يسلم عليهم وأن الأفضل أن يقول السلام عليكم بالألف واللام ولو قال سلام عليكم كفاه وأن رد السلام يستحب أن يكون زيادة على الابتداء وأنه يجوز فى الرد أن يقول السلام عليكم ولا يشترط أن يقول وعليكم السلام والله أعلم