( باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه واثبات عذاب القبر والتعوذ منه
 
اعلم أن مذهب أهل السنة اثبات عذاب القبر وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة قال الله تعالى النار يعرضون عليها غدوا وعشيا الآية وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبى صلى الله )
(17/200)

عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة فى مواطن كثيرة ولايمتنع فى العقل أن يعيد الله تعالى الحياة فى جزء من الجسد ويعذبه واذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به وجب قبوله واعتقاده وقد ذكر مسلم هنا أحاديث كثيرة فى اثبات عذاب القبر وسماع النبى صلى الله عليه و سلم صوت من يعذب فيه وسماع الموتى قرع نعال دافنيهم وكلامه صلى الله عليه و سلم لأهل القليب وقوله ما أنتم باسمع منهم وسؤال الملكين الميت واقعادهما إياه وجوابه لهما والفسح له فى قبره وعرض مقعده عليه بالغداة والعشى وسبق معظم شرح هذا فى كتاب الصلاة وكتاب الجنائز والمقصود أن مذهب أهل السنة اثبات عذاب القبر كما ذكرنا خلافا للخوارج ومعظم المعتزلة وبعض المرجئه نفوا ذلك ثم المعذب عند أهل السنة الجسد بعينه أو بعضه بعد اعادة الروح إليه أو إلى جزء منه وخالف فيه محمد بن جرير وعبد الله بن كرام وطائفة فقالوا لايشترط إعادة الروح قال أصحابنا هذا فاسد لأن الألم والاحساس إنما يكون فى الحى قال أصحابنا ولايمنع من ذلك كون الميت قد تفرقت اجزاؤه كما نشاهد فى العادة أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك فكما أن الله تعالى يعيده للحشر وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك فكذا يعيد الحياة إلى جزء منه او أجزاء وان أكلته السباع والحيتان فان قيل فنحن نشاهد الميت على حاله فى قبره فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ولايظهر له أثر فالجواب أن ذلك غير ممتنع بل له نظير فى العادة وهو النائم فانه يجد لذة وآلاما لانحس نحن شيئا منها وكذا يجد اليقظان لذة وآلما لما يسمعه أو يفكر فيه ولايشاهد ذلك جليسه منه وكذا كان جبرائيل يأتى النبى صلى الله عليه و سلم فيخبره بالوحى الكريم ولايدركه الحاضرون وكل هذا ظاهر جلى قال أصحابنا وأما اقعاده المذكور فى الحديث فيحتمل أن يكون مختصا بالمقبور دون المنبوذ ومن أكلته السباع والحيتان وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له فى قبره فيقعد ويضرب والله أعلم [ 2866 ] قوله ( مقعدك حتى يبعثك الله ) هذا تنعيم
(17/201)

للمؤمن وتعذيب للكافر [ 2867 ] قوله ( حادث به بغلته ) أى مالت عن الطريق ونفرت وقرع النعال
(17/202)

وخفقها هو ضربها وصوتها فيها [ 2870 ] قوله ( ما كنت تقول فى هذا الرجل ) يعنى بالرجل النبى صلى الله عليه و سلم وانما يقوله فى هذه العبارة التى ليس فيها تعظيم امتحانا للمسؤل لئلا يتلقن تعظيمه من عبارة السائل ثم يثبت الله الذين آمنوا [ 2870 ] قوله ( يفسح له فى قبره ويملأ عليه خضراالى يوم يبعثون ) الخضر ضبطوه بوجهين أصحهما بفتح الخاء وكسر الضاد والثانى بضم
(17/203)

الخاء وفتح الضاد والأول أشهر ومعناه يملأ نعما غضة ناعمة واصلة من خضرة الشجر هكذا فسروه قال القاضي يحتمل أن يكون هذا الفسح له على ظاهره وأنه يرفع عن بصره ما يجاوره من الحجب الكثيفة بحيث لاتناله ظلمة القبر ولاضيقة اذا ردت إليه روحه قال ويحتمل أن يكون على ضرب المثل والاستعارة للرحمة والنعيم كما يقال سقى الله قبره والاحتمال الأول أصح والله أعلم
(17/204)

[ 2872 ] قوله فى روح المؤمن ( ثم يقول انطلقوا به إلى آخر الأجل ثم قال فى روح الكافر فيقال انطلقوا به إلى آخر الأجل ) قال القاضي المراد بالأول انطلقوا بروح المؤمن إلى سدرة المنتهى والمراد بالثانى انطلقوا بروح الكافر إلى سجين فهي منتهى الأجل ويحتمل أن المراد إلى انقضاء أجل الدنيا قوله ( فرد رسول الله صلى الله عليه و سلم ريطة كانت عليه على أنفه ) الريطة بفتح الراء واسكان الياء وهو ثوب رقيق وقيل هي الملاءة وكان سبب ردها على الأنف بسبب ما ذكر من نتن ريح روح الكافر [ 2873 ] قوله ( حديد البصر ) بالحاء أى نافذه ومنه قوله تعالى فبصرك اليوم حديد قوله
(17/205)

صلى الله عليه و سلم ( هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله إلى آخره ) هذا من معجزاته صلى الله عليه و سلم الظاهرة قوله صلى الله عليه و سلم فى قتلى بدر ( ماأنتم بأسمع لما أقول منهم ) قال المازرى قال بعض الناس الميت يسمع عملا بظاهر هذا الحديث ثم أنكره المازرى وادعى أن هذا خاص فى هؤلاء ورد عليه القاضي عياض وقال يحمل سماعهم على ما يحمل عليه سماع الموتى فى أحاديث عذاب القبر وفتنته التى لامدفع لها وذلك باحيائهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون فى الوقت الذى يريد الله هذا كلام القاضي وهو الظاهر المختار الذى يقتضيه أحاديث
(17/206)

السلام على القبور والله أعلم [ 2874 ] قوله ( يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ) هكذا هو فى عامة النسخ المعتمدة كيف يسمعوا وأني يجيبوا من غير نون وهى لغة صحيحة وان كانت قليلة الاستعمال وسبق بيانها مرات ومنها الحديث السابق فى كتاب الايمان لاتدخلوا الجنة حتى تؤمنوا وقوله جيفوا أى أنتنوا وصاروا جيفا يقال جيف الميت وجاف وأجاف وأروح وأنتن بمعنى قوله ( فسحبوا فألقوا فى قليب بدر ) وفى الرواية الأخرى فى طوى من أطواء بدر القليب والطوى بمعنى وهى البئر المطوية بالحجارة قال أصحابنا وهذا السحب إلى القليب ليس دفنا لهم ولاصيانة وحرمة بل لدفع رائحتهم المؤذية والله أعلم
(17/207)