أخطاء في العمل بالرُّؤيا وأخذ الأحكام منها
 
أخطاء في العمل بالرُّؤيا وأخذ الأحكام منها:
أ- قياس رؤيا غير الأنبياء على رؤيا الأنبياء في العمل وأخذ الأحكام:
وهذا الخطأُ وَقَعَ به بعض أفراد إحدى الجماعات حينما رَأَوا في المنام أنَّهم يَذبحون بعضَ أولادهم الذُّكور؛ خاصَّةً، فلما أصبحوا ظنُّوا منامَهم إلهاماً وأمراً وابتلاءً من الله، فقاموا وأنجزوا ما أمروا به– في زعمهم– فذبحوا أبناءهم كما يذبح الكبش وأحسنوا ذبحتهم في زعمهم واحتسبوهم وأحسنوا احتسابهم في زعمهم، ولما نوقشوا قالوا: لم نأت أمرًا ولم نحدث نكراً؛ وإنَّما أنجزنا ما أمرنا به واتبعنا فيه سنة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ ولا يعلمون أنَّ منامَ الأنبياء وحيٌ ومنامَ الصُّلَحاء بشائرُ أو أضغاثُ أحلام ومجرَّد رؤيا منام أو إضلال شيطان...)(47).
فرؤيا الأنبياء وحيٌ من الله؛ وهي حقٌّ لا شَكَّ فيه؛ أمَّا غيرُهم فكما قال الشَّاطبيُّ: (الرُّؤيا من غير الأنبياء لا يُحْكَم بها شرعاً على حال؛ إلَّا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشَّرعيَّة؛ فإن سوَّغَتْها عمل بمقتضاها، وإلَّا وَجَبَ تركُها والإعراضُ عنها؛ وإنَّما فائدتُها البشارةُ أو النِّذارةُ خاصَّةً، وأمَّا استفادةُ الأحكام فلا)(48).
وقال في الموافَقات: «فكلُّ ما حَكَمَ به النبي صلى الله عليه و سلم أو أَخْبَرَ عنه من جهة رؤيا نوم أو رؤية كشف مثل ما حكم به ممَّا ألقى إليه الملك عن الله- عَزَّ وجَلَّ؛ وأمَّا أمَّتُه فكلُّ واحد منهم غيرُ معصوم؛ بل يجوز عليه الغلطُ والخطأُ والنِّسيان...»(49).
ب- تطبيق الحدود استنادًا على بعض الرُّؤى:
قال الشَّاطبيُّ: «فلو رأى في النَّوم قائلاً يقول: إنَّ فلانًا سَرَقَ فاقطعه، أو عالم فاسأله، أو اعمل بما يقول لك، أو فلان زنى فحدَّه، أو ما أشبه ذلك، لم يصحَّ له العمل حتى يقوم الشَّاهدُ في اليقظة؛ وإلَّا كان عاملاً بغير شريعة»(50).
وذكر أنَّ ابنَ رشد سُئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضيَّة، فلما نام الحاكمُ ذَكَرَ أنَّه رَأَى النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم وقال له: لا تحكم بهذه الشَّهادة؛ فإنَّها باطلٌ.
فأجاب بأنَّه لا يحلُّ له أن يترك العمل بتلك الشَّهادة؛ لأنَّ ذلك إبطالٌ لأحكام الشَّريعة بالرُّؤيا (51).
وحكى الغواليّ عن بعض الأئمَّة: «أنَّه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن، فروجع فيه، فاستدلَّ بأنَّ رجلاً رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب هذه المدينة ولم يدخلها، فقيل له: لا دخلتها. فقال: أغناني عن دخولها رجلٌ يقول بخَلق القرآن. فقام ذلك الرَّجلُ فقال: لو أَفْتَى إبليس بوجوب قتلي في اليقَظَة هل تقلِّدونه في فتواه؟ فقالوا: لا. قال: فقوله في المنام لا يَزيد على قوله في اليَقَظَة»(52).
ج- رفضُ العلم بالرُّؤى مطلَقًا أو العمل بها مطلَقًا:
ولا شكَّ أنَّ كلا الأمرين خطأٌ؛ فالصَّحيح أنَّه يجوز العملُ بالرُّؤيا إذا لم تخالف شيئًا من الشَّرع؛ كالمباحات التي فيها سعة، وكذلك يجوز العمل بها إذا كانت موافقةً ومندرجةً تحت أصل من أصول الشَّريعة؛ فيجوز العملُ بها ولا يجب.
وقال ابنُ القَيِّم: (ورؤيا الأنبياء وحيٌ؛ فإنَّها معصومةٌ من الشَّيطان؛ وهذا باتِّفاق الأمَّة، ولهذا أقدم الخليلُ على ذبح ابنه إسماعيل- عليهما السَّلام- بالرُّؤيا.
وأما رؤيا غيرهم: فتُعرض على الوحي الصَّريح؛ فإن وافَقَتْه وإلَّا لم يعمل بها؛ فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقةً، أو تواطأت؟
قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتُها للوحي؛ بل لا تكون إلَّا مطابقةً له منبِّهةً عليه أو منبِّهةً على اندراج قضيَّة خاصَّة في حكمه لم يَعْرف الرَّائي اندراجَها فيه؛ فَيَتَنَبَّه بالرُّؤيا على ذلك)(53).
وقد تقدَّمَ قولُ الشَّاطبيِّ: (الرُّؤيا من غير الأنبياء لا يُحكَم بها شرعًا على حال إلَّا أن تُعْرَضَ على ما في أيدينا من الأحكام الشَّرعيَّة؛ فإن سَوَّغَتْها عمل بمقتضاها وإلَّا وَجَبَ تركُها والإعراضُ عنها؛ وإنَّما فائدتُها البشارةُ أو النِّذارةُ خاصَّة...)(54).
وقال في الموافقات: (فالقولُ في ذلك أنَّ الأمورَ الجائزات أو المطلوبات التي فيها سَعَةٌ يجوز العمل فيها).
وقال: (إنَّ المنفيَّ هنا أن يعمل عليها بخرم قاعدة شرعيَّة؛ فأمَّا العمل عليها مع الموافَقَة فليس بمنفيّ)(55)، وذكر ثلاثة أوجه على جواز العمل بها.
وعلى ضوء ما سبق تنزل رؤيا ثابت بن قيس بن شماس حينما نفذت وصيَّتُه بعد موته عن طريق الرُّؤيا؛ فقد رَوَى الطَّبرانيُّ أنَّ ثابتَ بن قيس جاء يوم اليمامة وقد تحنَّطَ ونَشَرَ أكفانَه فقال: اللهمَّ إنِّي أبرأ إليك ممَّا جاء به هؤلاء، وأعتذر ممَّا صنعه هؤلاء. فقتل، وكانت له درعٌ فسرقت، فرآه رجلٌ فيما يرى النَّائم فقال: إنَّ درعي في قدر تحت الكانون في مكان كذا أو كذا. وأوصاه بوصايا، فطلبوا الدّرع فوجدوه وأنفذوا الوصايا (56)؛ فهنا أجيزت الرُّؤيا؛ لأنَّها رؤيا صادقةٌ ولأنَّها لم تخالف الشَّرعَ.
د- نسبة بعض الأحداث إلى الرؤى والأحلام وأنَّها الفاعلةُ بذاتها:
قد تجد مَن يَنسب الخيرَ الذي يحصل أو الشَّرَّ الذي يندفع إلى الرُّؤَى والأحلام وأنَّها هي المؤثِّرة بذاتها؛ فربَّما نسب حياةَ الإنسان أو وفاتَه إليها متناسياً قدرةَ الله- سبحانه وتعالى- ومشيئتَه فيقع في الشِّرك ووسائله؛ ومن أمثلة ذلك:
أنَّ البعضَ إذا أراد أن يسمِّيَ مولودَه فرأى رؤيا أن اسم ابنه فلان، فإذا لم يسم ابنه بهذا الاسم الذي رآه في المنام فحدث له مكروه أو مات قال: هذا بسبب أنِّي لم أُسمِّه بالاسم الذي رأيتُه في منامي، فينسب هذه الوفاة إلى تلك الرُّؤيا، وأنَّ تسميتَه بذلك الاسم الذي رآه في المنام تَمْنَع عنه الوفاة؛ وهذا لا شَكَّ أنَّه من الخطأ ويَدُلُّ على الجهل بقدرة الله- عَزَّ وجَلَّ.
هـ- الاغترارُ باستشهاد بعض العلماء في الرُّؤَى والأحلام فيظنَّ البعضُ أنَّ هذه الرُّؤَى بمثابة الدَّليل المستقلّ.
وهذا لا شَكَّ أنَّه فهمٌ خاطئٌ؛ فالعلماءُ لا يَسْتَشْهدون بالرُّؤَى استقلالاً؛ إنَّما يستشهدون بها تأنيسًا، ولا يمكن أن تكون بمثابة الدَّليل المستقلّ إلَّا إذا وردت عن الرَّسول صلى الله عليه و سلم أو أقرَّها؛ فهنا تأخذ حكمَ الدَّليل المستقلّ؛ كرؤيا الأذان وكيفيَّته.
قال الشَّاطبيُّ حينما تكلَّم عن هذا الموضوع وذكر رؤيا الكنانيّ فقال: (كما في رؤيا الكنانيّ المذكورة آنفاً(57)؛ فإنَّ ما قال فيها يحيى بن معين صحيح؛ ولكنَّه لم يحتجَّ به حتى عرضناه على العلم في اليقظة فصار الاستشهادُ به مأخوذًا من اليقظة لا من المنام؛ وإنَّما ذكرتُ الرُّؤيا تأنيسًا؛ وعلى هذا يُحْمَلُ ما جاء عن العلماء من الاستشهاد بالرُّؤيا)(58).
و- تقديم الرؤى والأحلام على المصلحة الشرعية الراجحة:
إنَّ من الخطأ أن يرى الإنسانُ المصلحةَ في أمر يراه أو يحسُّه أو يشاهده، ويترك ذلك كلَّه بناءً على رؤيا رآها قد تكون من حديث النَّفس أو أنَّ لها تأويلاً يَختلف عمَّا ذهب إليه؛ بل حتى لو كانت تلك الرُّؤيا يغلب على الظَّنِّ صدقُها فليس له أن يقدِّمَها على المصلحة الرَّاجحة المحسوسة؛ فاليقظةُ مقدَّمةٌ على المنام، وأمَّا الرُّؤيا فيُسْتفاد منها البشارةُ والنِّذارةُ، ومَن تأمَّل هديَ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم في ذلك يجده قدَّم المصلحةَ الشَّرعيَّةَ في صلح الحديبية في ذلك العام، فرجع الصَّحابةُ دون أن يعتمروا مع أنَّهم كانوا مبشَّرين بتلك الرُّؤيا، وأقرب ما يكون يقينًا عندهم أنَّ الأعداءَ لن يمنعوهم؛ فشَقَّ عليهم ذلك حين منعوهم حتى قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، أولستَ تحدِّثُنا أنَّا سنأتي البيتَ ونطوف به. فقال: «بلى، هل أخبرتُك أنَّا نأتيه في هذا العام؟» فقال: لا، فقال: « فإنّك آتِيه وَمُطَّوِّفٌ بِهِ ». فلم تدفعه تلك الرُّؤيا التي هي وحيٌ من الله على أن يتركَ تلك المصلحة الشَّرعيَّة التي رآها؛ فكيف بمَن يتخلَّى عن مصالح شرعيَّة لمجرَّد رؤَى أو ظنون أو أوهام كاذبة؟ بل حتى لو اعتقد صحَّةَ رؤياه فعليه أن لا يَستعجل الأمورَ فيقع في العنت والمشقَّة؛ وإنَّما يأخذ بما تقتضيه المصلحةُ الشَّرعيَّةُ، ويترك شأنَ الرُّؤيا إن صدقت إلى تقدير الله؛ لا سيَّما أنَّ وقتَها غيرُ محدَّد بمدَّة معلومة.