أخطاء في رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم في المنام
 
أخطاء في رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم في المنام:
لقد زَلَّت أقدامُ كثير من الأشخاص فيما يتعلَّق برؤية النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم في المنام؛ فَغَيَّروا وبدَّلوا بشريعة الله استنادًا إلى رؤى كاذبة؛ فلم يفرِّقوا بين الأحكام التي شرعها الله على لسان النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم أثناءَ حياته، وبين الأحكام المزعومة المنسوبة كذبًا إلى النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم بعد وفاته؛ فإليك شيئًا من هذه الأخطاء والمزالق:
أ) اعتقاد البعض أن رؤية النبي صلى الله عليه و سلم في المنام يلزم منها صلاح وتقوى الرائي:
قد يرى الإنسانُ النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم في المنام بأوصافه المعروفة فيظنُّ هذا الرَّائي أنَّ هذا دليلٌ على تقواه وصلاحه، وربَّما أصبح معجبًا بنفسه ومزكِّيًا لها؛ ولا شَكَّ أنَّ ذلك خطأٌ؛ قال الشَّيخُ ابنُ باز- رحمه الله- في معرض كلامه عن رؤية النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم في المنام: (ولا يَلزم من ذلك أن يكون الرَّائي من الصَّالحين... وقد رآه في حياته صلى الله عليه و سلم أقوامٌ كثيرون فلم يُسلموا ولم ينتفعوا برؤيته؛ كأبي جهل وأبي لهب وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين وغيرهم؛ فرؤيته في النَّوم- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- من باب أولى (74). اهـ؛ فالمؤمنُ إذا رَأَى النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم في المنام فلا بأسَ أن يَسْتَبْشرَ بهذه الرُّؤيا خيراً؛ أمَّا أن يَجْزمَ بها على صلاحه وتقواه، فهذا ليس عليه دليلٌ صحيحٌ.
ب) الاعتماد على رؤية النبي صلى الله عليه و سلم في المنام في مخالفة ما علم من الشرع:
لم يمت النبي صلى الله عليه و سلم إلَّا بعد أن استكمل هذا الدِّين؛ فلا يمكن أن يأتي حكمٌ جديدٌ في الدِّين بعد وفاته صلى الله عليه و سلم ، وأمَّا الرُّؤى فلا يَثبت بها حكم؛ قال الشيخ ابنُ باز- رحمه الله: (... لا يجوز أن يُعْتَمَدَ عليها في شيء يخالف ما علم من الشَّرع؛ بل يجب عرضُ ما سمعه الرَّائي من النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم من أوامره ونواهيه أو خبر أو غير ذلك من الأمور التي يسمعها أو يراها الرَّائي للرَّسول صلى الله عليه و سلم على الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة؛ فما وافقهما أو أحدهما قُبل وما خالفهما أو أحدهما تُرك؛ لأنَّ الله- سبحانه- قد أكمل لهذه الأمَّة دينَها وأتمَّ عليها النِّعمةَ قبلَ وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم ؛ فلا يجوز أن يُقبلَ من أحد من الناس ما يخالفُ ما علم من شرع الله ودينه؛ سواء كان ذلك من طريق الرُّؤيا أو غيرها؛ وهذا مَحَلُّ إجماع بين أهل العلم المعتدِّ بهم...)(75).
وما أجمل ذلك الرَّدَّ في المحادثة التي حصل فيها الالتباس والشَّكُّ بين بعض المسلمين في دخول شهر رمضان ورؤية الهلال؛ قال أحدُهم: إنِّي رأيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم في المنام وأخبرني أنَّ يومَ غد يومُ صيام، فَرَدَّ عليه ذلك العالم قائلاً: إنَّ الذي رأيتُه في المنام رؤي في اليقظة وقال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».
ج) اعتقادُ البعض أنَّ رؤيةَ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم في المنام كرؤيته حقيقةً مع عدم تطابق وتشابه الصُّورتَين:
فإذا رأى الإنسانُ في المنام أحدًا على أنَّه النبي صلى الله عليه و سلم ولم توافق الصِّفات التي رآها في المنام صفات النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم المعروفة عند أهل العلم فليعلم أنَّه لم يرَ النَّبيّ؛ لأنَّه صلى الله عليه و سلم قال عن الشَّيطان: «لا يَتَمَثَّل في صورتي»(76).
قال القاضي: «المرادُ به إذا رآه على صفته المعروفة له في حياته؛ فإن رؤي على خلافها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة»(77).
وقال الشَّيخُ ابنُ باز- رحمه الله: (فَمَن رأى النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم في المنام فقد رأى الحقيقة، وقد رآه- عليه الصَّلاة والسَّلام- إذا رآه في صورته التي هي معروفةٌ عند أهل العلم؛ وهو- عليه الصَّلاة والسَّلام- ربعةٌ من الرِّجال حسنُ الصُّورة أبيض مشرب بحمرة كثّ اللِّحية سوداء...)(78).
د) اعتقادُ البعض أنَّ رؤيةَ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم في المنام سببٌ في دخول الجَنَّة:
لا يوجَد دليلٌ صحيحٌ صريح على أنَّ مَن رأى النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم في المنام فسيراه في الجنة، أو أنَّ رؤيتَه سببٌ في دخولها، وما وَرَدَ من أحاديث في رؤيته أجاب عنها العلماء بأجوبة؛ منها:
"فقال ابنُ التِّين: قوله صلى الله عليه و سلم : «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة»؛ والمرادُ مَن آمن به في حياته ولم يَرَه؛ لكونه حينئذٍ غائبًا عنه؛ فيكون بهذا مبشِّرًا لكلِّ مَن آمن به ولم يره؛ أن لابدَّ أن يراه في اليَقَظَة قبل موته صلى الله عليه و سلم ؛ وأمَّا قولُه أنَّه: «سيراني في الآخرة» فقولٌ ضعيفٌ (79).
وأمَّا حديثُ: «مَن رآني فقد حَرُمَت عليه النَّارُ». أجاب عنه الشَّيخُ ابنُ باز- رحمه الله- بأنَّه حديثٌ لا أصلَ له وليس بصحيح(80).
وقال القاضي ابنُ العربي: (قوله صلى الله عليه و سلم : «فسيراني في اليقظة» معناه: فَسَيَرى تفسيرَ ما رأى؛ لأنَّه حقٌّ وغيبٌ ألقي فيه، وقال: أمَّا قوله صلى الله عليه و سلم : «فكأنما رآني في اليقظة». هو تشبيهٌ، ومعناه: أنَّه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في المنام؛ فيكون الأوَّلُ حقًّا وحقيقةً،
والثاني حقًّا وتمثيلاً، ثم قال: وهذا كلُّه إذا رآه على صورته المعروفة؛ فإن رآه على خلاف صفته فهي أمثالٌ)(81).
* تنبيه هامٌّ على كذب الوصيَّة المنسوبة إلى خادم الحرم النَّبويّ بقلم الشيح ابن باز رحمه الله:
"من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى مَن يطَّلع عليه من المسلمين- حفظهم الله بالإسلام، وأعاذنا وإيَّاهم من شرِّ مفتريات الجهلة الطّغام، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد:
فقد اطَّلعتُ على كلمة منسوبَة إلى الشَّيخ أحمد خادم الحرم النَّبويِّ الشَّريف بعنوان: (هذه وصيَّةٌ من المدينة المنوَّرة عن الشَّيخ أحمد خادم الحرم النَّبويِّ الشَّريف) قال فيها:
(كنت ساهرًا ليلةَ الجمعة أتلو القرآن الكريم، وبعد تلاوة قراءة أسماء الله الحسنى، فلمَّا فَرَغْتُ من ذلك تَهَيَّأتُ للنَّوم، فرأيتُ صاحبَ الطَّلعة البهيَّة رسولَ الله صلى الله عليه و سلم .... ).

تنبيه : نحن في موقع المحجة تعمدنا عدم ايراد ما افتري حتى لا ننشر الباطل



هذه خلاصةُ ما في الوصيَّة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ولقد سمعنا هذه الوصيَّةَ المكذوبةَ مرَّات كثيرة منذ سنوات متعدِّدة تُنْشَر بين الناس فيما بين وقت وآخر، وتروح بين الكثير من العامَّة، وفي ألفاظها اختلاف، وكاذبها يقول أنَّه رَأَى النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم في النوم فحمَّله هذه الوصيَّة، وفي هذه النشرة الأخيرة التي ذكرنا لك أيُّها القارئ زعم المفتري فيها أنَّه رَأَى النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم عندما تَهَيَّأَ للنَّوم؛ فالمعنى أنَّه رآه يقظةً!
زَعَمَ المفتري في هذه الوصيَّة أشياءً كثيرةً هي من أوضح الكذب وأبين الباطل، سأنبِّهُك عليها قريبًا في هذه الكلمة إن شاء الله، ولقد نَبَّهتُ عليها في السَّنوات الماضية، وبيَّنتُ للناس أنَّها من أوضح الكذب، وأبين الباطل؛ فلمَّا اطَّلَعتُ على هذه النَّشرة الأخيرة تردَّدتُ في الكتابة عنها؛ لظهور بطلانها وعظَم جراءة مفتريًا على الكذب، وما كنتُ أظنُّ أنَّ بطلانَها يروج على مَن له أدنى بصيرة، أو فطرة سليمة، وكان أخبرني كثيرٌ من الإخوان أنَّها قد راجت على كثير من الناس، وتداولوها بينهم، وصدَّقها بعضهم، فمن أجل ذلك رأيتُ أنَّه يتعيَّن على أمثالي الكتابة عنها؛ لبيان بطلانها، وأنَّها مفتراةٌ على رسول الله صلى الله عليه و سلم ؛ حتى لا يغترَّ بها أحد، ومَن تأمَّلَها من ذوي العلم والإيمان، أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصَّحيح، عرف أنَّها كذب وافتراء من وجوه كثيرة.
ولقد سألتُ بعضَ أقارب الشَّيخ أحمد المنسوبة إليه هذه الفرية عن هذه الوصية فأجانبي بأنَّها مكذوبةٌ على الشيخ أحمد، وأنَّه لم يَقُلْها أصلاً، والشيخ أحمد المذكور قد مات من مدَّة، ولو فرضنا أنَّ الشَّيخَ أحمد المذكور أو مَن هو أكبرُ منه زَعَمَ أنَّه رأى النبيَّ صلى الله عليه و سلم في النَّوم أو في اليقظة وأوصاه بهذه الوصية، لعلمنا أنَّه كاذبٌ، أو أنَّ الذي قال له ذلك شيطانٌ، وليس هو الرَّسولُ صلى الله عليه و سلم ؛ لوجوه كثيرة، منها:
1 - أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه و سلم لا يُرى في اليقظة بعد وفاته صلى الله عليه و سلم ، ومَن زَعَمَ من جهلة الصُّوفيَّة أنَّه يرى النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم في اليقظة، أو أنَّه يحضر المولد أو ما شابه ذلك، فقد غَلَطَ أقبحَ الغلط ولبَّس عليه غايةَ التَّلبيس، ووقع في خطأ عظيم، وخالف الكتابَ والسُّنَّة وإجماع أهل العلم؛ لأنَّ الموتى إنَّما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدُّنيا، ومن قال خلاف ذلك فهو كاذبٌ كذبًا بيِّنًا، أو غالطٌ ملبَّسٌ عليه لم يعرف الحقَّ الذي عَرَفَه السَّلَفُ الصَّالح، ودرج عليه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه و سلم وأتباعُهم بإحسان؛ قال اللهُ تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ(82)، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم : «أنا أوَّلُ مَن تَنشقُّ عنه الأرضُ يومَ القيامة، وأنا أَوَّلُ شافع وأَوَّلُ مُشَفَّع». والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ.
2 - الوجه الثاني: إنَّ الرسولَ صلى الله عليه و سلم لا يقولُ خلافَ الحقِّ؛ لا في حياته ولا في وفاته، وهذه الوصيةُ تخالف شريعتَه مخالفةً ظاهرةً من وجوه كثيرة كما يأتي؛ وهو صلى الله عليه و سلم قد يُرى في النَّوم، ومَن رآه في المنام على صورته الشَّريفة فقد رآه؛ لأنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمَثَّل في صورته؛ كما جاء بذلك الحديثُ الصَّحيحُ الشَّريف؛ ولكن الشَّأنُ في إيمان الرَّائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وأمانته، وهل رأى النَّبيَّ صلى الله عليه و سلم في صورته أو في غيرها، ولو جاء عن النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم حديثٌ قالَه في حياته من غير طريق الثِّقات العدول الضَّابطين لم يُعتَمَد عليه ولم يُحتجّ به، أو جاء من طريق الثّقاة الضَّابطين؛ ولكنَّه يُخالف روايةَ مَن هو أحفظُ منهم وأوثق؛ مخالفةً لا يمكن معها الجمعُ بين الرِّوايتين- لكان أحدُهما منسوخًا لا يُعمَل به، والثاني ناسخٌ يُعمل به؛ حيث أمكن ذلك بشروطه، وإذا لم يمكن الجمعُ ولا النَّسخُ وَجَبَ أن تطرحَ رواية مَن هو أقلُّ حفظًا وأدنى عدالةً، والحكم عليها بأنَّها شاذَّةٌ لا يُعمَل بها.
فكيف بوصيَّة لا يُعرف صاحبُها الذي نَقَلَها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا تُعرَف عدالتُه وأمانتُه؛ فهي والحالة هذه حقيقةٌ بأن تُطْرَحَ ولا يُلتفت إليها، وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشَّرع؛ فكيف إذا كانت الوصيَّةُ مشتملةً على أمور كثيرة تدلُّ على بطلانها، وأنَّها مكذوبةٌ على رسول الله صلى الله عليه و سلم ومتضمِّنةٌ لتشريع دين لم يأذن به الله.
وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه و سلم : «من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»، وقد قال مفتري هذه الوصيَّة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ما لم يَقُل، وكَذَبَ عليه كذبًا صريحًا خطيرًا، فما أحراه بهذا الوعيد العظيم وما أحقّه به إن لم يبادرْ بالتَّوبة، وينشر للناس كذبَ هذه الوصيَّة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ؛ لأنَّ مَن نَشَرَ باطلاً بينَ الناس ونَسَبَه إلى الدِّين لم تصحَّ توبتُه منه إلَّا بإعلانها وإظهارها؛ حتى يعلمَ الناسُ رجوعَه عن كذبه وتكذيبَه لنفسه؛ لقول الله- عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(83).
فأوضح- سبحانه وتعالى- في هذه الآية الكريمة أنَّ مَن كَتَمَ شيئًا من الحقِّ لم تصحَّ توبتُه من ذلك إلَّا بعد الإصلاح والتَّبيين، والله- سبحانه- قد أكمل لعباده الدِّين وأَتَمَّ عليهم النِّعمةَ ببعث رسوله محمَّد صلى الله عليه و سلم ، وما أوحى اللهُ إليه من الشَّرع الكامل، ولم يقبضه إليه إلَّا بعد الإكمال والتَّبيين؛ كما قال- عَزَّ وجَلَّ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي(84)، ومفتري هذه الوصية قد جاء في القرن الرَّابع عشر يريد أن يُلَبِّسَ على الناس دينًا جديدًا يترتَّب عليه دخول الجنَّة لمن أخذ بتشريعه، وحرمان الجنة ودخول النار لمن لم يأخذ بتشريعه، ويريد أن يجعل هذه الوصيَّةَ التي افتراها أعظم من القرآن وأفضل؛ حيث افترى فيها: أنَّ مَن كتبها وأرسلها من بلد إلى بلد أو من محلٍّ إلى محلٍّ بُني له قصرٌ في الجنَّة، ومَن لم يكتبْها ويرسلها حرمت عليه شفاعةُ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم يوم القيامة.
وهذا من أقبح الكذب ومن أوضح الدَّلائل على كذب هذه الوصيَّة وقلَّة حياء مفتريها وعظم جرأته على الكذب؛ لأنَّ مَن كتب القرآنَ الكريمَ وأرسله من بلد إلى بلد، أو من محلٍّ إلى محلٍّ لم يحصل له هذا الفضل إذا لم يعمل بالقرآن الكريم؛ فكيف يحصل لكاتب هذه الفرية وناقلها من بلد إلى بلد؟!
ومن لم يكتب القرآن ولم يرسله من بلد إلى بلد لم يُحْرَمْ شفاعة النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان مؤمنًا به، تابعًا لشريعته، وهذه الفريةُ الواحدةُ في هذه الوصيَّة تكفي وحدَها للدِّلالة على بطلانها وكذب ناشرها ووقاحته وغباوته وبُعده عن معرفة ما جاء به الرَّسول من الهدى، وفي هذه الوصية سوى ما ذكر أمورٌ أخرى كلُّها تدلُّ على بطلانها وكذبها، ولو أقسم مفتريها ألفَ قسم أو أكثر على صحَّتها؛ ولو دعا على نفسه بأعظم العذاب وأشدِّ النَّكال على أنَّه صادقٌ لم يكن صادقًا، ولم تكن صحيحةً؛ بل هي والله ثم والله من أعظم وأقبح الباطل.
ونحن نُشهد اللهَ- سبحانه- ومَن حَضَرَنا من الملائكة ومَن اطَّلَع على هذه الكتابة من المسلمين شهادةً نَلْقَى بها ربَّنا- عَزَّ وجلَّ- أنَّ هذه الوصيَّةَ كذبٌ وافتراءٌ على رسول الله صلى الله عليه و سلم أخزى الله مَن كَذَبَها وعامَلَه بما يستحقُّ؛ ويَدُلُّ على كذبها وبطلانها سوى ما تقدَّمَ أمورٌ كثيرة:
- الأولُ منها قوله فيها: (لأنَّ من الجمعة إلى الجمعة مات مئة وستُّون ألفًا على غير دين الإسلام)؛ لأنَّ هذا من علم الغيب والرَّسولُ صلى الله عليه و سلم قد انقطع عنه الوحي بعد وفاته، وهو في حياته لا يعلم الغيبَ؛ فكيف بعد وفاته؟! لقول الله- سبحانه: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ(85)، وقوله تعالى: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ(86)، وفي الحديث الصَّحيح عن النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم أنَّه قال: «يُذاد رجال عن حوضي يوم القيامة، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال لي، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(87).
- الثاني من الأمور الدَّالَّة على بطلان هذه الوصيَّة وأنَّها كذبٌ قولُه فيها: (من كَتَبَها وكان فقيرًا أغناه الله، أو مديونًا قضى الله دينه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية...) إلى آخره، وهذا من أعظم الكذب وأوضح الدَّلائل على مفتريها وقلَّة حيائه من الله ومن عباده؛ لأنَّ هذه الأمور الثَّلاثة لا تَحصل بمجرَّد كتب القرآن الكريم، فكيف تحصل لمن كتب هذه الوصيَّة الباطلةَ؛ وإنَّما يريد هذا الخبيثُ التَّلبيسَ على النَّاس وتعليقَهم بهذه الوصيَّة حتى يكتبوها ويتعلَّقوا بهذا الفضل المزعوم، ويتركوا الأسباب التي شرَّعها اللهُ لعباده، وجعلها موصلة إلى الغنى وقضاء الدَّين ومغفرة الذنوب؛ فنعوذ بالله من أسباب الخذلان وطاعة الهوى والشَّيطان.
الأمر الثالثُ من الأمور الدَّالَّة على بطلان هذه الوصيَّة قوله فيها: (ومن لم يكتبها من عباد الله اسودَّ وجهُه في الدُّنيا والآخرة). وهذا أيضًا من أقبح الكذب، ومن أبين الأدلَّة على بطلان هذه الوصيَّة، وكذب مفتريها؛ كيف يجوز في عقل عاقل أن يكتب هذه الوصيَّةَ التي جاء بها رجلٌ مجهولٌ في القرن الرَّابع عشر يفتريها على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويزعم أنَّ مَن لم يكتبْها يسودُّ وجهُه في الدُّنيا والآخرة، ومَن كتبها كان غنيًّا بعد الفقر، وسليمًا من الدَّين بعد تراكمه عليه، ومغفورًا له ما جناه من الذُّنوب؟!
سبحانك، هذا بهتان عظيم، وإنَّ الأدلَّةَ والواقعَ يَشهدان بكذب هذا المفتري، وعظيم جرأته على الله، وقلَّة حيائه من الله ومن الناس؛ فهؤلاء أممٌ كثيرةٌ لم يكتبوها فلم تسودَّ وجوهُهم، وههنا جمع غفير لا يحصيهم إلَّا الله قد كتبوها مرَّات كثيرة، فلم يُقْضَ دينُهم، ولم يَزُلْ فقرُهم، فنعوذُ بالله من زَيْغ القلوب ورين الذُّنوب، وهذه صفات وجزاءات لم يأت الشَّرعُ الشريف لمن كتب أفضل كتاب وأعظمه وهو القرآن الكريم، فكيف تحصل لمن كتب وصيةً مكذوبةً مشتملةً على أنواع من الباطل وجُمَل كثيرة من أنواع الكفر، سبحان الله، ما أحلمه على مَن اجترأَ عليه بالكذب.
الأمر الرابع من الأمور الدَّالَّة على أنَّ هذه الوصيَّةَ من أبطل الباطل وأوضح الكذب قوله فيها: (ومن يصدِّقُ بها ينجو من عذاب النار، ومَن كذَّب بها كَفَر. وهذا أيضًا من أعظم الجرأة على الكذب ومن أقبح الباطل؛ يدعو هذا المفتري جميعَ الناس إلى أن يصدِّقوا بفريته، ويزعم أنَّهم بذلك ينجون من عذاب النار، وأنَّ مَن كَذَّبَ بها كَفَر؛ لقد أعظم والله هذا الكذَّابُ على الله الفريةَ، وقال والله غيرَ الحقِّ.
إنَّ مَن صَدَّقَ بها هو الذي يستحقُّ أن يكون كافرًا؛ لا مَن كَذَّب بها؛ لأنَّها فريةٌ وباطلٌ وكذبٌ لا أساسَ له من الصِّحَّة، ونحن نشهد بالله على أنَّها كذبٌ، وأنَّ مفتريها كذَّابٌ يريد أن يشرِّعَ للنَّاس ما لم يأذن به الله، ويدخل في دينهم ما ليس منه، والله قد أكمل الدِّينَ وأتمَّه لهذه الأمَّة من قبل هذه الفرية بأربعة عشر قرنًا.
فانتبهوا أيُّها القرَّاء والإخوان، وإيَّاكم والتَّصديق بأمثال هذه المفتريات، وأن يكون لها رواج فيما بينكم؛ فإنَّ الحقَّ عليه نور لا يلتبس على طالبه؛ فاطلبوا الحقَّ بدليله، واسألوا أهلَ العلم عمَّا أشكل عليكم، ولا تغترُّوا بحلف الكَذَّابين؛ فقد حلف إبليس اللَّعين لأبويكم آدم وحوَّاء على أنَّه لهما من النَّاصحين، وهو أعظم الخائنين وأكذب الكذَّابين؛ كما حكى اللهُ عنه ذلك في سورة الأعراف؛ حيث قال- سبحانه: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فاحذروه واحذروا أتباعَه من المفترين؛ فكم له ولهم من الأيمان الكاذبة والعهود الغادرة والأقوال المزخرفة للإغواء والتَّضليل.
عصمني اللهُ وإيَّاكم وسائر المسلمين من شَرِّ الشَّياطين وفتن المضلِّين وزيغ الزَّائغين وتلبيس أعداء الله المبطلين الذين يريدون أن يطفئوا نورَ الله بأفواههم، ويُلَبِّسوا على النَّاس دينَهم، واللهُ متمُّ نوره وناصرُ دينه، ولو كره أعداءُ الله من الشَّياطين وأتباعهم من الكفَّار والملحدين.
وأمَّا ما ذَكَرَه هذا المفتري من ظهور المنكَرات فهو أمرٌ واقعٌ، والقرآن الكريم والسُّنَّةُ المطهَّرة قد حذَّرا منها غايةَ التَّحذير، وفيهما الهدايةُ والكفايةُ، نسأل اللهَ أن يصلحَ أحوالَ المسلمين، وأن يَمُنَّ عليهم باتِّباع الحقّ والاستقامة عليه والتَّوبة إلى الله سبحانه من سائر الذُّنوب؛ فإنَّه التَّوَّابُ الرحيم القادرُ على كلِّ شيء.
وأمَّا ما ذكر عن شروط السَّاعة فقد أوضحت الأحاديثُ النَّبَويَّة ما يكون من أشراط السَّاعة، وأشار القرآنُ الكريمُ إلى بعض ذلك؛ فمَن أراد أن يَعلم ذلك وَجَدَه في محلِّه من كتب السُّنَّة ومؤلَّفات أهل العلم والإيمان، وليس بالنَّاس حاجةٌ إلى بيان مثل هذا المفتري وتلبيسه ومزجه الحقَّ بالباطل.
وحسبُنا اللهُ ونعم الوكيل، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله العليِّ العظيم، والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على عبده ورسوله الصَّادق الأمين وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدِّين.
* * *