3_ وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا))(14) [متفق عليه]. ومعناه : لا هجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام.
 
في هذا الحديث نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة بعد الفتح، فقال: ((لا هجرة))وهذا النفي ليس على عمومه، يعني أن الهجرة لم تبطل بالفتح، بل إنه ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها))(15) - كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لكن المراد بالنفي هنا نفي الهجرة من مكة كما قاله المؤلف - رحمه الله-؛ لأن مكة بعد الفتح صارت بلاد إسلام، ولن تعود بعد ذلك بلاد كفر ، ولذلك نفى النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أن تكون هجرة بعد الفتح.
وكانت مكة تحت سيطرة المشركين، وأخرجوا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهاجر صلى الله عليه وسلم بإذن ربِّه إلى المدينة وبعد ثمانِ سنواتٍ رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً مظفَّراً منصوراً- صلوات الله وسلامه عليه-.
فصارت مكة بدل كونها بلد كفر، صارت بلد إيمان وبلد إسلام، ولم يكن منها هجرة بعد ذلك.
وفي هذا دليل على أن مكة لن تعود لتكون بلاد كفر، بل ستبقى بلاد إسلام إلى أن تقوم الساعة، أو إلى أن يشاء الله.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ولكن جهاد ونية)) ؛ أي الأمر بعد هذا جهاد؛ أي يخرج أهل مكة من مكة إلى الجهاد.
و((النية)) أي النية الصالحة للجهاد في سبيل الله، وذاك بأن ينوي الإنسان بجهاده، أن تكون كلمة الله هي العليا.
ثم قال عليه الصلاة والسلام((وإذا استُنْفرتُم فانفروا)) يعني : إذا استنفركم ولي أمركم للجهاد في سبيل الله، فانفروا وجوباً، وحينئذ يكون الجهاد فرض عين، إذا استنفر الناس للجهاد؛ وجب عليهم أن ينفروا، وألا يتخلَّف أحد إلا من عذره ، لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾ [التوبة:38،39]، وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الجهاد فرض عين.
الموضع الثاني: إذا حضر بلدة العدو، أي جاء العدو حتى وصل إلى البلد وحصر البلد، صار الجهاد فرض عين، ووجب على كل أحد أن يقاتل، حتى على النساء والشيوخ القادرين في هذه الحال، لأن هذا قتال دفاع.
وفرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب.
فيجب في هذا الحال أن ينفر الناس كلهم للدفاع عن بلدهم.
الموضع الثالث: إذا حضر الصف ، والتقى الصفان؛ صف الكفار وصف المسلمين؛ صار الجهاد حينئذ فرض عين، ولا يجوز لأحد أن ينصرف كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال:15، 16] .
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات.(16)
الموضع الرابع: إذا احتيج إلى الإنسان ؛ بأن يكون السلاح لا يعرفه إلا فرد من الأفراد، وكان الناس يحتاجون إلى هذا الرجل؛ لاستعمال هذا السلاح الجديد مثلاً؛ فإنه يتعين عليه أن يجاهد وإن لم يستنفره الإمام وذلك لأنه محتاج إليه.
ففي هذه المواطن الأربعة، يكون الجهاد فرض عين.
وما سوى ذلك فإنه يكون فرض كفاية.
قال أهل العلم: ويجب على المسلمين أن يكون منهم جهاد في العام مرة واحدة، يجاهد أعداء الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن من حيث إنَّه وطن، لأن الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم، لكنَّ المسلم يدافع عن دين الله، فيدافع عن وطنه؛ لا لأنه وطنه مثلاً، ولكن لأنه بلد إسلامي؛ فيدافع عنه حماية للإسلام الذي حل في هذه البلد.
ولذلك يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم, يجب علينا أن نُذَكِّّرَ جميع العامة بأن الدعوة إلى تحرير الوطن , وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة , وأنه يجب أن يُعَبَّأَ الناس تعبئةً دينية , ويُقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شيء, لأن بلدنا بلد دين، بلد إسلام يحتاج إلى حماية ودفاع، فلابد أن ندافع عنها بهذه النية. أما الدفاع بنية الوطنيّة، أو بنية القوميّة، فهذا يكون من المؤمن والكافر، ولا ينفع صاحبه يوم القيامة، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حميّة،ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليُرِيَ مكانه أيُّ ذلك في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).(17)
انتبه إلى هذا القيد ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)) لا لأنه وطنه وإذا كنت تقاتل لوطنك ؛ فأنت والكافر سواء ، لكن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ممثلة في بلدك؛ لأن بلدك بلد إسلام؛ ففي هذه الحال يكون القتال قتالاً في سبيل الله.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله- أي يُجرح - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب؛ اللون لون الدم، والريح ريح المسك))(18) .
فانظر كيف اشترط النبي صلى الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله، والقتال في سبيل الله؛ أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
فيجب على طلبة العلم أن يبيِّنُوا للناس أن القتال للوطن ليس قتالاً صحيحاً , وإنما يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وأُقاتِلُ عن وطني ؛ لأنه وطن إسلامي؛ فأحميه من أعدائه وأعداء الإسلام؛ فبهذه النيَّة تكون النية صحيحة . و الله الموفِّق.



(14) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير، رقم (2783)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، رقم (1864).
(15) أخرجه أبو داود ، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت، رقم (2479)، وأحمد في المسند (4/99) وهو صحيح الجامع رقم (7469).
(16) أخرجه البخاري، كتاب الوصايا ، باب قول الله تعال: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْما…) رقم (2766). ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم (88).
(17) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، رقم ( 2810). ومسلم ، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، رقم (1904) .
(18) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب من يخرج في سبيل الله، رقم ( 2803). ومسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، رقم ( 1876).

الموضوع التالي


4-وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: ((إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً , ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم؛ حبسهم المرض)) وفي رواية : ((إلا شرَكُوكُمْ في الأجر))(19) [رواه مسلم]. ورواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: ((رَجَعْنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن أقواماً بالمدينة خَلْفَنا، ما سلكنا شِعْباً، ولا واديا إلا وَهُم معَنا ، حبسهم العُذْرُ)).