51 - وعن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها !‍ قالوا: يا رسول الله،فما تأمرنا!قال: تؤدُّون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم ))(164) [ متفق عليه] . (( والأثرة )) الانفراد بالشيء عمن له فيه حقٌ . 52 - وعن أبي يحيى أُسيد بن حضير - رضي الله عنه - أن رجلا من الأنصار قال : يا رسول الله ، ألا تستعملني كما استعملت فلانا ؟ فقال (( إنكم ستلقون بعدي أثرةً ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ))(165) [متفق عليه] . (( وأُسَيْدٌ )) بضم الهمزة . (( وحُضَيْرٌ )) بحاء مهملة مضمومة وضاد معجمة مفتوحة ، والله أعلم.
 
هذان الحديثان : حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وحديث أسيد بن حضير - رضي الله عنه - ذكرهما المؤلف في باب الصبر لأنهما يدلان على ذلك .
أما حديث عبد الله بن مسعود فأخبر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إنها ستكون بعدي أثرة )) والأثرة يعني : الاستئثار بالشيء عمن له فيه حق .
يريد بذلك صلى الله عليه وسلم أنه سيستولي على المسلمين وُلاةٌ يستأثرون بأموال المسلمين يصرفونها كما شاؤوا ويمنعون المسلمين حقَّهم فيها .
وهذه أثرة وظلم الولاة ، أن يستأثروا بالأموال التي للمسلمين فيها الحق ، ويستأثروا بها لأنفسهم عن المسلمين . ولكن قالوا : ما تأمرنا ؟
قال : ((تُؤدُّون الحق الذي عليكم)) يعني: لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوهم من السمع والطاعة وعدم الإثارة وعدم التشويش عليهم ، بل اصبروا واسمعوا وأطيعوا ولا تنازعوهم الأمر الذي أعطاهم الله ((وتسألون الله الذي لكم)) أي: اسألوا الحق الذي لكم من الله ، أي : اسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم ، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علمَ أن النفوس شحيحة ، وأنها لن تصبر على من يستأثر عليهم بحقوقهم ، ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرشد إلى أمر قد يكون فيه الخير ، وذلك بأن نؤدِّي ما علينا نحوهم من السمع والطاعة وعدم منازعة الأمر وغير ذلك ، ونسأل الله الذي لنا ، وذلك إذا قلنا : اللهم اهدهم حتى يعطونا حقنا ، كان في هذا خير من جهتين .
وفيه دليل على نبوَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر بأمر وقع ، فإن الخلفاء والأمراء منذ عهد بعيد كانوا يستأثرون المال، فنجدهم يأكلون إسرافا ، ويشربون إسرافا ، ويلبسون إسرافا ، ويسكنون ويركبون إسرافا ، وقد استأثروا بمال الناس لمصالح أنفسهم الخاصة ، ولكن هذا لا يعني أن ننزع يدا من طاعة ، أو أن نُنابِذَهم ، بل نسأل الله الذي لنا ، ونقوم بالحق الذي علينا .
وفيه ـ أيضا ـ استعمال الحكمة في الأمور التي قد تقتضي الإثارة ، فإنه لا شك أن استئثار الولاة بالمال دون الرَّعيَّة يوجب أن تثور الرعية وتطالب بحقها ، ولكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر بالصبر على هذا ، وأن نقوم بما يجب علينا ، ونسأل الله الذي لنا .
أما حديث أسيد بن حضير ـ رضي الله عنه ـ فهو كحديث عبد الله بن مسعود أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((إنها ستكون أثرة)) ولكنه قال : ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض)) .
يعني: اصبروا ولا تنابذوا الولاة أمرهم حتى تلقوني على الحوض ، يعني أنكم إذا صبرتم فإن من جزاء الله لكم على صبركم أن يسقيَكم من حوضه ، حوض النبى صلى الله عليه وسلم ، اللهم اجعلنا جميعا ممن يرده ويشرب منه .
هذا الحوض الذي يكون في يوم القيامة في مكان وزمان أحوج ما يكون الناس إليه ؛ لأنه في ذلك المكان وفي ذلك الزمان ، في يوم الآخرة ، يحصل على الناس من الهم والغم والكرب والعرق والحر ما يجعلهم في أشد الضرورة إلى الماء ، فيَرِدونَ حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر ، يصب عليه ميزابان من الكوثر ، وهو نهر في الجنة أُعْطِيَهَ النبي صلى الله عليه وسلم ، يصبَّان عليه ماء ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأطيب من رائحة المسك ، وفيه أوان كنجوم السماء في اللمعان والحسن والكثرة ، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبدًا . اللهم اجعلنا ممن يشرب منه .
فأرشده النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى أن يصبروا ولو وجدوا الأثرة ، فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورود على الحوض والشرب منه .
وفي هذين الحديثين : حث على الصبر على استئثار ولاة الأمور في حقوق الرعية ، ولكن يجب أن نعلم أن الناس كما يكونون يُوَلَّى عليهم ، إذا أساؤوا فيما بينهم وبين الله فإن الله يُسَلِّط عليهم ولاتهم ، كما قال تعالى :﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام:129] ، فإذا صلحت الرعية يَسَّرَ الله لهم ولاة صالحين ، وإذا كانوا بالعكس كان الأمر بالعكس .
ـ ويذكر أن رجلا من الخوارج جاء إلى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقال له : يا علي ، ما بال الناس انتقضوا عليك ولم ينتقضوا على أبي بكر وعمر ؟
فقال له : إن رجال أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أنا وأمثالي ، أما أنا فكان رجالي أنت وأمثالك ، أي: ممن لا خير فيه ؛ فصار سببا في تسلُّط الناس وتفرقهم على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وخروجهم عليه ، حتى قتلوه رضي الله عنه .
ـ ويذكر أن أحد ملوك بني أمية سمع مقالة الناس فيه ، فجمع أشراف الناس ووُجَهاءهم وكلَّمهم ـ وأظنه عبد الملك بن مروان ـ وقال لهم: أيها الناس ، أتريدون أن نكون لكم مثل أبي بكر وعمر ؟
قالوا : نعم ! فال إذا كنتم تريدون ذلك فكونوا لنا مثل رجال أبي بكر وعمر !! فالله سبحانه وتعالى حكيم ، يولي على الناس من يكون بحسب أعمالهم ، إن أساؤوا فإنه يُساء إليهم ، وإن أحسنوا أحسن إليهم .
ولكن مع ذلك لاشك أن صلاح الراعي هو الأصل ، وأنه إذا صلُحَ الراعي صلحت الرعية ، لأن الراعي له سلطة يستطيع أن يُعَدِّلَ من مال ، وأن يُؤدِّب من عالَ وجَار . والله الموفق.




(164) أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((سترون بعدي أموراً تنكروها)) رقم (7052)النبي صلى الله عليه وسلم ومسلم ، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعه الخلفاء الأول فالأول، رقم (1843).

(165) أخرجه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((سترون بعدي أموراً تنكرونها)) رقم (7057)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم ، رقم (1845).

الموضوع السابق


50 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهم- قال : قدم عُيينَة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يُدْنيهم عمر رضي الله عنه ، وكان القراء أصحاب مجلس عمر - رضي الله عنه - ومشاوَرتِهِ، كهولا كانوا أو شبانا ، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي ، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذنْ لي عليه ، فاستأذنَ ، فأذن له عمر . فلما دخل قال : هيه يا ابن الخطاب ، فو الله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل ، فغضب عمر - رضي الله عنه - حتى هم أن يوقعَ به ، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:199] ، وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها ، وكان وقَّافًا عند كتاب الله تعالى ))(162) [رواه البخاري] .