57 ـ عن أبي ثابت ، وقيل : أبي سعيد ، وقيل : أبي الوليد سهل بن حنيف ، وهو بدري ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من سأل الله تعالى الشهادة بِصِدقٍ بلَّغَه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه))(181) [رواه مسلم] .
 
هذا الحديث ذكره المؤلف رحمه الله ـ في باب الصدق ، والشاهد منه قوله : ((من سأل الله تعالى الشهادة بصدق)) . والشهادة مرتبة عالية بعد الصدِّيقيَّة ، كما قال الله سبحانه : ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾[النساء: 69] ، وهي أنواع كثيرة :
منها : الشهادة بأحكام الله عز وجل على عباد الله ، وهذه شهادة العلماء التي قال الله فيها : ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 18] .
وقد ذهب كثير من العلماء في تفسير قوله : ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ إلى أنهم العلماء ولا شك أن العلماء شهداء، فيشهدون بأن الله تعالى أرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ويَشْهَدون على الأمة بأنها بلغت شريعة الله ، ويشهدون في أحكام الله : هذا حلال ، وهذا حرام ، وهذا واجب ، وهذا مستحب ، وهذا مكره ، ولا يعرف هذا إلا أهل العلم ؛ لذلك كانوا شهداء .
ومن الشهداء أيضا : من يُصاب بالطعن والبطن والحرق والغرق : المطعون والمبطون والحريق والغريق وما أشبههم .
ومن الشهداء : الذين قتلوا في سبيل الله .
ومن الشهداء: الذين يُقتلون دون أموالهم ودون أنفسهم ، كما قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما سأله رجل وقال: ((أرأيت يا رسول الله إن جاءني رجل يطلب مالي ـ أي عنوة ـ قال : ((لا تعطه مالك ، قال : أرأيت إن قاتَلَني ؟ قال قاتِله ، قال أرأيت إن قَتَلْتُه ؟ قال : هو في النار ـ لأنه معتدٍ ظالم ـ قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : فأنت شهيد قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال هو في النار ))(182)
وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (( من قُتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد ، ومن قُتل دون ماله فهو شهيد ))(183) .
ومن الشهداء أيضا : من قُتل ظلما ، كأن يعتدي عليه إنسان فيقتله غيلة ـ ظلما ـ فهذا أيضًا شهيد .
ولكن أعلى الشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله ؛ كما قال تعالى : (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران 169ـ171] ، هؤلاء الشهداء في الآية هم : الذين قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا ، فما قاتلوا لحظوظ أنفسهم ، وما قاتلوا لأموالهم ، وإنما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا ، كما قال ذلك النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين سُئِلَ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميَّة ويقاتل ليرى مكانه، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله))(184).
هذا الميزان ميزانٌ عدل ، لا يخيس ميزان وضعه النبي صلى الله عليه وسلم يزن الإنسان به عمله .
فمن قاتل لهذه الكلمة فهو في سبيل الله ، إن قتلت فأنت شهيد ، وإن غنمت فأنت سعيد ، كما قال الله سبحانه : ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ إما الشهادة وإما الظفر والنصر. ﴿وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ [التوبة:52] ، أي : إما أن الله يعذبكم ، ويقينا شركم ، كما فعل الله تعالى بالأحزاب الذين تجمعوا على المدينة يريدون قتال الرسول عليه الصلاة والسلام ، فأرسل الله عليهم ريحا وجنودا وألقى في قلوبهم الرعب ،﴿أَوْ بِأَيْدِينَا﴾ كما حصل في بدر ، فإن الله عذب المشركين بأيدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، هذا الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا هو الشهيد .
فإذا سأل الإنسان ربه وقال : اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ـ ولا تكون الشهادة إلا بالقتال ؛ لتكون كلمة الله هي العليا ـ فإن الله تعالى إذا عَلِمَ منه صدق القول والنية أنزله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه .
بقي علينا الذي يُقاتل دفاعًا عن بلده : هل هو في سبيل الله أو لا ؟
نقول : إن كنت تقاتل دفاعا عن بلدك لأنها بلد إسلامي فتريد أن تحميها من أجل أنها بلد إسلامي فهذا في سبيل الله ، لأنك قاتلت لتكون كلمة الله هي العليا .
إما إذا قاتلت من أجل أنها وطن فقط فهذا ليس في سبيل الله ؛ لأن الميزان الذي وَضَعَهُ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا ينطبق عليه من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، وما سوى ذلك فليس في سبيل الله ، ولهذا يجب أن نصحح للإنسان نيته في القتال للدفاع عن بلده ، بأن ينوي بذلك بأن يقاتل عن هذا البلد لأنه بلد إسلامي فيريد أن يحفظ الإسلام الذي فيه ، وبهذا يكون إذا قتل شهيدا له أجر الشهداء ، وإذا غنم صار سعيدًا وربح ، إما ربح الدنيا وإما ربح الآخرة ، وقد وتقدم الكلام على هذه المسألة . والله الموفق .



(181) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة ، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، رقم (1909).
(182) تقدم تخريجه ص(67).
(183) تقدم تخريجه ص(70).
(184) تقدم تخريجه ص(34).

الموضوع التالي


58 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((غزا نبيٌ من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فقال لقومه : لا يتبعني رجل مَلَكَ بُضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتا لم يرفع سقوفها ، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها . فغزا ، فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك ، فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علينا ، فحبست حتى فتح الله عليه ، فجمع الغنائم ، فجاءت ـ يعنى النار ـ لتأكلها فلم تطعمها ، فقال : إن فيكم غُلُولا ، فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلَزِقَت يد رجل بيده ، فقال : فيكم الغلول ، فليبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده ، فقال : فيكم الغلول ، فجاؤوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب ، فوضعها فجاءت النار فأكلتها ، فلم تحل الغنائم قبلنا ، ثم أحل الله لنا الغنائم لما رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا )) (185) [متفق عليه ] . (( الخلفات )) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام : جمع خلفة ، وهي الناقة الحامل .