71_ الثالث: عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) (316) رواه مسلم.
 
من الأحاديث التي أوردها المصنف- رحمه الله- في باب التقوى هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعوا الله- عز وجل - بهذا الدعاء: ((اللهُمَّ إنِّي أسألُكَ الهدَى والتُّقى والعفَافَ والغِنَى)). ((الهدى)) هنا بمعنى العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم محتاج إلى العلم كغيره من الناس، لأن الله سبحانه وتعالى قال له: ﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾[طـه:114].وقال الله له:﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾[النساء:113]، فهو عليه الصلاة والسلام محتاج إلى العلم، فيسأل الله الهدى. والهدى إذا ذُكر وحده يشمل العلم والتوفيق للحق، أما إذا قُرن معه ما يدل على التوفيق للحق فإنه يُفَسَّر بمعنى العلم، لأن الأصل في اللغة العربية أن العطف يقتضي المغايرة، فيكون الهدى له معنى، وما بعده مما يدل على التوفيق له معنى آخر. وأما قوله: ((والتُّقى)) فالمراد بالتقى هنا: تقوى الله عز وجل، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه التقى أي: أن يُوَفِّقَه إلى تقوى الله، لأن الله- عز وجل - هو الذي بيده مقاليد كل شيء، فإذا وُكل العبد إلى نفسه ضاع ولم يحصل على شيء، فإذا وفَّقَه الله عز وجل، ورزقه التُّقى، صار مستقيما على تقوى الله عز وجل. وأما قوله: ((العفاف)) فالمراد به أن يَمُنَّ الله عليه بالعفاف والعفة عن كل ما حرم الله عليه، فيكون عطفه على التقوى من باب عطف الخاص على العام، إن خصصنا العفاف بالعفاف عن شيء مُعَيّن، وإلا فهو من باب عطف المترادفين. فالعفاف: أن يعف عن كل ما حرَّم الله عليه فيما يتعلق بجميع المحارم التي حرمها الله عز وجل. وأما ((الغِنى)) فالمراد به الغنى عما سوى الله، أي: الغنى عن الخلق، بحيث لا يفتقر الإنسان إلى أحد سوى ربه عز وجل. والإنسان إذا وفّضقه الله ومنَّ عليه بالاستغناء عن الخَلْقِ، صار عزيز النفس غير ذليل، لأن الحاجة إلى الخلق ذُلٌ ومَهَانة، والحاجة إلى الله تعالى عِزٌّ وعبادة، فهو عليه الصلاة والسلام يسأل الله عز وجل الغنى. فينبغي لنا أن نقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الدعاء، وأن نسأل الله الهدى والتُقى والعفافَ والغنى. وفي هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرَّا، وأن الذي يملك ذلك هو الله. وفيه دليل أيضا على إبطال من تعلَّقوا بالأولياء والصالحين في جلب المنافع ودفع المضار، كما يفعل بعض الجهال الذين يدعون الرسول عليه الصلاة والسلام إذا كانوا عند قبره، أو يدعون من يزعمونهم أولياء من دون الله ، فإن هؤلاء ضالُّون في دينهم، سُفَهاءُ في عقولهم، لأن هؤلاء المدعوين هم بأنفسهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾[الأنعام:50]، وقال له: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعراف:188]، وقال له: ﴿قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ [الجـن:22،21]. فالإنسان يجب أن يعلم أن البشر مهما أوتوا من الوجاهة عند الله عز وجل، ومن المنزلة والمرتبة عند الله، فإنهم ليسوا بمستحقين أن يُدْعَوا من دون الله، بل إنهم - أعني من لهم جاهٌ عند الله من الأنبياء والصالحين - يتبرَّؤون تبرَّؤاً تاما ممن يدعونهم من دون الله عز وجل. قال عيسى عليه الصلاة والسلام لما قال له الله: ﴿ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: 116]، ليس من حق عيسى ولا غيره أن يقول للناس اتخذوني إلهاً من دون الله: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة:117،116]. فالحاصل أن ما نسمع عن بعض جُهَّال المسلمين في بعض الأقطار الإسلامية، الذين يأتون إلى قبور من يزعمونهم أولياء، فيدعون هؤلاء الأولياء، فإن هذا العمل سَفَهٌ في العقل، وضلالٌ في الدِّين. وهؤلاء لن ينفعوا أحداً أبداً، فهم جُثَثٌ هامدة، هم بإنفسهم لا يستطيعون الحراك فكيف يتحركون لغيرهم، والله الموفق.


)316 (أخرجه مسلم،كتاب الذكر و الدعاء،باب التعوذ من شر ما عمل ومن شرِّ ما لم يعمل، رقم(2721).
)317 (أخرجه مسلم كتاب الأيْمان ، باب ندب من حَلَفَ يمينًا فرأى غيرها خيرا منها..، رقم(1651).