89 ـ الثالث : عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد : أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال : ( في الجنة ) فألقى تمرات كن في يده ، ثم قاتل حتى قتل . متفق عليه (27).
 

قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وعن أبيه ، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد : يا رسول الله ، أرأيت إن قاتلت حتى قتلت ، قال : ( أنت في الجنة ) ، فألقى تمرات كانت معه ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه ، ففي هذا الحديث دليل على مبادرة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى الأعمال الصالحة ، وأنهم لا يتأخرون فيها ، وهذا شانهم ؛ ولهذا كانت لهم العزة في الدنيا ، وفي الآخرة .
ونظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم عيد ، ثم نزل فتقدم إلى النساء فخطبهن ، وأمرهن بالصدقة ، فجعلت المرأة منهن تأخذ خرصها وخاتمها، وتلقيه في ثوب بلال ، يجمعه ، حتى أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم(28) ، ولم يتأخرن ـ رضي الله عنهن ـ بالصدقة ، بل تصدقن حتى من حليهن .
وفي حديث جابر من الفوائد : أن من قتل في سبيل الله ؛ فإنه في الجنة ، ولكن من هو الذي يقتل في سبيل الله ؟ الذي يقتل في سبيل الله : هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، لا يقاتل حمية ولا شجاعة ولا رياء ، وإنما يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، أما من قاتل حمية ؛ مثل الذين يقاتلون من أجل القومية العربية مثلاً ، فإن هؤلاء ليسوا شهداء ؛ وذلك لأن القتال من أجل القومية العربية ليس في سبيل الله ، لأنه حمية .
وكذلك أيضاً : من يقاتل شجاعة ؛ يعني من تحمله شجاعته على القتال لأنه شجاع ، والغالب أن الإنسان إذا اتصف بصفة يحب أن يقوم بها ، فهذا أيضاً إذا قتل ليس في سبيل الله .
وكذلك أيضاً : من قاتل مراءاة والعياذ بالله ؛ ليرى مكانه ، وأنه رجل يقاتل الأعداء الكفار ، فإنه ليس في سبيل الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية ، ويقاتل شجاعة ، ويقاتل ليرى مكانه ؛ أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )(29) .
وفي هذا دليل على حرص الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على معرفة الأمور ؛ لأن هذا الرجل سأل النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان هذا من عادتهم ؛ أنهم لا يفوتون الفرصة حتى يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم يستفيدون من هذا علماً وعملاً ، فإن العالم بالشريعة قد من الله عليه بالعلم ، ثم إذا عمل به فهذه منّه أخرى ، والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان هذا شأنهم ، فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الحكم الشرعي من أجل أن يعملوا به ، بخلاف ما عليه من الناس اليوم ، فإنهم يسألون عن الأحكام الشرعية ؛ حتى إذا عملوا بها تركوها ، ونبذوها وراء ظهورهم ، وكأنهم لا يريدون من العلم لا مجرد المعرفة النظرية ، وهذا في الحقيقة خسران مبين ؛ لأن من ترك العمل بعد علمه به فإن الجاهل خير منه .
فإذا قال قائل : لو رأينا رجلاً يقاتلون ، ويقولون : نحن نقاتل للإسلام ، دفاعاً عن الإسلام ، ثم قتل أحد منهم ؛ فهل نشهد له بأنه شهيد ؟ فالجواب : لا . لا نشهد بأنه شهيد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من مكلوم يكلم في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يكلم في سبيله ـ إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثغب دماً ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك )(30) فقوله : ( والله أعلم بمن يكلم في سبيله ) يدل على أن الأمر يتعلق بالنية المجهولة لنا ، المعلومة عند الله ، وخطب عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم فقال : أيها الناس ، إنكم تقولون : فلان شهيد وفلان شهيد ، ولعله أن يكون قد أوقر راحلته ؛ يعني قد حملها من الغلول ؛ يعني لا تقولوا هكذا ، ولكن قولوا : من مات أو قتل في سبيل الله فهو شهيد ، فلا تشهد لشخص بعينه أنه شهيد ؛ إلا من شهد له النبي صلى الله عليه سلم فإنك تشهد له ، وأما من سوى هذا فقل كلاماً عاماً قل : من قتل في سبيل الله فهو شهيد ، وهذا نرجو أن يكون من الشهداء ، وما أشبه ذلك . والله الموفق .



(27) أخرجه البخاري ، كتاب المغازي ، باب غزوة أحد ، رقم (4046) ، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، رقم (1899) .
(28) أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها ، رقم (1431)، ومسلم ، كتاب العيدين ، باب جامع في صلاة العيدين ، رقم (884) .
(29) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد ، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، رقم ( 2810) ، ومسلم كتاب الإمارة ، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، رقم ( 1904) .
(30) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد ، باب من يخرج في سبيل الله عز وجل ، رقم (2803)، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله رقم (1876) .

الموضوع السابق


88 ـ الثاني : عن أبي سروعة ـ بكسر السين المهملة وفتحها ـ عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال : صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر ، فسلم ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ، ففزع الناس من سرعته ، فخرج عليهم ، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته ، قال : ( ذكرت شيئاً من تبر عندنا ، فكرهت أن يحبسني ، فأمرت بقسمته )(22) رواه البخاري . وفي رواية له : ( كنت خلفت في البيت تبرا ً من الصدقة ؛ فكرهت أن أبيته ). ( التبر ) قطع ذهب أو فضة .