94 ـ الثامن : عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : ( لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ) قال عمر رضي الله عنه : ما أحببت الإمارة إلا يؤمئذ ، فتساورت لها رجاء أن أدعى لها ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ، فأعطاه إياها ، وقال : ( امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك ) فسار على شيئاً ، ثم وقف ولم يلتفت ؛ فصرخ : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس ؟ قال : ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) رواه مسلم (45). ( فتساورت ) هو بالسين المهملة : أي وثبت متطلعاً .
 

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : ( لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله ) ، وفي لفظ : (ويحبه الله ورسوله ) يوم خيبر : يعني يوم غزوة خيبر ، وخيبر حصون ومزارع كانت لليهود ؛ تبعد عن المدينة نحو مائة ميل نحو الشمال الغربي ، فتحها النبي عليه الصلاة والسلام كما هو معروف في السير ، وكان الذين يعملون فيها اليهود ، فصالحهم النبي عليه الصلاة والسلام على أن يبقوا فيها مزارعين بالنصف ؛ لهم نصف الثمرة ، وللمسلمين نصف الثمرة ، وبقوا على ذلك حتى أجلاهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في خلافته ، أجلاهم إلى الشام وإلى أذرعات .
قال النبي عليه الصلاة والسلام : (لأعطينه الراية رجلاً يحب الله ورسوله ) الراية : هي ما يسمى عندنا العلم ، يحمله القائد من أجل أن يهتدي به الجيش وراءه ، فقال : ( لأعطينه الراية رجلاً يحب الله ورسوله ) وقوله: ( رجلاً ) نكرة لا يعلم من هو ، قال عمر بن الخطاب : فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ ، رجاء أن يصيبه ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام ، فتسورت لها وبات الناس تلك الليلة يخوضون ويدوكون ، كل منهم يرجو أن يعطاها ، فلما أصبحوا قال النبي صلى الله عليه وسلم : أين علي بن أبي طالب ؟ ابن عمه قالوا : يا رسول الله ، إنه يشتكي عينيه ، يعني عنده وجع في عينيه ، فدعا به ، فجاء ، فبصق في عينيه ؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع في الحال ، والله على كل شيء قدير ، ثم أعطاه الراية ، وقال له : ( امش ولا تلتفت حتى يفتح الله ) .
ففعل ـ رضي الله عنه ـ فلما مشى قليلاً وقف ، ولكنه لم يلتفت ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : لا تلتفت ، فصرخ بأعلى صوته : يا رسول الله ، على ماذا أقاتلهم ؟ بدون التفات ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لا تلتفت ؛ قال : ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) ؛ هذه الكلمة كلمة عظيمة ، ولو وزنت بها السماوات والأرض لرجعت بالسماوات والأرض ، هذه الكلمة يدخل بها الإنسان من الكفر الإسلام ، فهي باب الإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، (فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) يعني إذا قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، فإنهم لا يقاتلون ، منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، أي بحق لا إله إلا الله ؛ أي بالحقوق التابعة لها ؛ لأن لا إله إلا الله ليست مجرد لفظ يقوله الإنسان بلسانه ، بل لها شروط ولها أمور لابد أن تتم ، ولهذا قيل لبعض السلف : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مفتاح الجنة لا إله إلا الله ) ؟ فقال نعم ، مفتاح الجنة لا إله إلا الله ، لكن لابد من عمل ؛ لأن المفتاح يحتاج إلى أسنان ، وقد صدق رحمه الله : المفتاح يحتاج إلى أسنان ، لو جئت بمفتاح بدون أسنان ما فتح لك .
إذن : قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إلا بحقها ) يشمل كل شيء يكفر به الإنسان مع قول لا إله إلا الله ، فإن من كفر وإن كان يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ولكنه أتى بمكفر ؛ فإن هذه الكلمة لا تنفعه .
ولهذا كان المنافقون يذكرون الله ، يقولون : لا إله إلا الله ، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ، هيئتهم وشكلهم كأنهم أكمل المؤمنين إيماناً ، ويأتون للرسول صلى الله عليه وسلم يقولون له : نشهد إنك لرسول الله ، الكلام مؤكد بثلاث مؤكدات ( نشهد ) و( إن ) و ( اللام ) في ( نَشْهَدُ إِنَّك لَرَسُولُ َاللَّهُ ) فقال رب العزة والجلال الذي يعلم ما في الصدور : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (المنافقون :1)، أعطاهم شهادة بشهادة ، يشهد إن المنافقون لكاذبون ، وأكد الله ـ عز وجل ـ كذب هؤلاء في قولهم : نشهد إنك لرسول الله ، بثلاثة مؤكدات ، فليس كل من قال لا إله إلا الله ؛ يعصم دمه وماله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى فقال : ( إلا بحقها ) .
ولما منع الزكاة من منعها من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، واستعد أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لقتالهم ، تكلم معه من تكلم من الصحابة ، وقالوا : كيف تقاتلهم وهم يقولون : لا إله إلا الله ؟ قال رضي الله عنه : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، الزكاة حق المال ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إلا بحقها ) فقاتلهم ـ رضي الله عنه ـ على ذلك ، وانتصر ولله الحمد .
فالحاصل : أنه ليس كل من قال لا إله إلا الله ، فإنه يمنع دمه وماله ، ولكن لابد من حق ، ولذلك قال العلماء رحمهم الله : لو أن قرية من القرى تركوا الأذان والإقامة ؛ فإنهم لا يكفرون ، ولكن يقاتلون ، وتستباح دمائهم حتى يؤذنوا ويقيموا ، مع أن الأذان والإقامة ليسا من أركان الإسلام ، لكنها من حقوق الإسلام ، قالوا : ولو تركوا صلاة العيد مثلاً ، مع أن صلاة العيد ليست من الفرائض الخمس ، لو تركوا صلاة العيد وجب قتالهم ، يقاتلون بالسيف والرصاص حتى يصلوا العيد ، مع أن صلاة العيد فرض كفاية ، أو سنة عند بعض العلماء ، أو فرض عين على القول الراجح ، لكن الكلام على أن القتال قد يجوز مع إسلام المقاتلين ؛ ليذعنوا لشعائر الإسلام الظاهرة ؛ ولهذا قال هنا : (إلا بحقها ) .
وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز للإنسان أن يقول : لأفعلن كذا في المستقبل ، وإن لم يقل : إن شاء الله . ولكن يجب أن نعلم الفرق بين شخص يخبر عما في نفسه ، وشخص يخبر أنه سيفعل ، يعني يريد الفعل .
أما الأول فلا بأس أن يقول سأفعل بدون إن شاء الله ؛ لأنه إنما يخبر عما في نفسه ، وأما الثاني : الذي يريد أنه يفعل ؛ أي يوقع الفعل فعلاً .
فهذا لا يقل إلا مقيداً بالمشيئة ، قال تعالى : ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه ُ) (الكهف:23-24) ، فهناك فرق بين من يخبر عما في نفسه ، وبين من يقول إنني سأفعل غداً . غداً ليس إليك ، ربما تموت قبل غد ، وربما تبقى ، ولكن يكون هناك موانع وصوارف ، وربما تبقى ويصرف الله همتك عنه ، كما يقع كثيراً ، كثيراً ما يريد الإنسان أن يفعل فعلاً غداً أو آخر النهار ، ثم يصرف الله همته .
ولهذا قيل لبعض الأعراب ـ والأعراب سبحان الله عندهم أحياناً جواب فطري ـ قيل له : بم عرفت ربك ؟ فأجاب قائلاً : الأثر يدل على المسير ، والبعير تدل على البعير . فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا تدل على السميع البصير ؟ ـ الله أكبر ـ أعرابي لا يعرف ؛ لكنه استدل بعقله ، فهذه الأمور العظيمة ألا تدل على خالق يخلقها ويدبرها ؟ بلى والله .
وسئل آخر : بم عرفت ربك ؟ قال : بنقض العزائم وصرف الههم ؛ فكيف هذا ؟ يعزم الإنسان على شيء ثم تنتقض عزيمته بدون أي سبب ظاهر ، إذن : من الذي نقضها ؟ الذي نقض العزيمة هو الذي أودعها أولاً ، وهو الله عز وجل ، وصرف الههم ؛ حيث يهم الإنسان بالشيء ـ وربما يبدأ به فعلاً ـ ثم ينصرف .
إذن نقول : إن في هذا الحديث دليل على أن الإنسان له أن يقول سأفعل كذا ؛ إخباراً عما في نفسه ، لا جزماً بأن يفعل ، لأن المستقبل له الله ، لكن إذا أخبرت عما في نفسك فلا حرج . والله الموفق .


(45) أخرجه مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رقم (2405) .

الموضوع التالي


قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) . وقال تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين ُ) (الحجر:99) . وقال تعالى : ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل:8) ، أي انقطع إليه . وقال تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) ، وقال تعالى : ( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) (المزمل:20) ، وقال تعالى : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273) ، والآيات في الباب كثيرة معلومة .