وأما الأحاديث : فالأول : عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب . وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ) رواه البخاري(50) . ( آذنته ) : أعلمته بأني محارب له : ( استعاذني ) روي بالنون وبالباء .
 
نقل المؤلف ـ رحمه الله ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( قال الله تعالى : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) والمعاداة هي المباعدة ، وهي ضد الموالاة ، والولي بينه الله ـ عز وجل ـ في قوله : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وكَانُواْ يتَقُونَ ) (يونس :62-63) ، هؤلاء هم أولياء الله ، (الَّذِينَ آمَنُوا ) أي حققوا الإيمان في قلوبهم بكل ما يجب الإيمان به ، (وكَانُواْ يتَقُونَ ) أي حققوا العمل الصالح بجوارحهم ، فاتقوا جميع المحارم من ترك الوجبات ، أو فعل المحرمات ، فهم جمعوا بين صلاح الباطن بالإيمان ، وصلاح الظاهر بالتقوى ، هؤلاء هم أولياء الله .
وليست ولاية الله سبحانه وتعالى تأتي بالدعوى ، كما يفعله بعض الدجالين الذين يموهون على العامة بأنهم أولياء لله وهم أعداء والعياذ بالله ، فتجد في بعض البلاد الإسلامية أناساً يموهون للعامة ؛ يقولون : نحن أولياء ، ثم يفعل من العبادات الظاهرة ما يموه به على العامة وهو من أعداء الله ، لكنه يتخذ من هذه الدعوة وسيلة إلى جمع المال ، وإلى إكرام الناس له ، وإلى تقربهم إليه وما أشبه ذلك .
وعندنا ـ ولله الحمد ـ ضابط بينه الله عز وجل ، وتعريف بين للأولياء ( الَّذِينَ آمَنُوا وكَانُواْ يتَقُونَ) هؤلاء هم أولياء الله ، فالذي يعادي أولياء الله يقول الله ـ عز وجل ـ : ( فقد آذنته بالحرب ) ، يعني أعلنت عليه الحرب. فالذي يعادي أولياء الله محارب لله ـ عز وجل ـ نسأل الله العافية ، ومن حارب الله فهو مهزوم مخذول لا تقوم له قائمة .
ثم قال سبحانه وتعالى : ( وما تَقربَ إلى عبدي بشَيءٍ أَحبَ إليَّ ممّا افتَرضتُ عليه ) ، يعني أن الله يقول : ما تقرب إلي الإنسان بشيء أحب إلي مما افترضه عليه ، يعني أن الفرائض أحب إلى الله من النوافل ، فالصلوات الخمس مثلاً أحب إلى الله من قيام الليل ، وأحب إلى الله من النوافل ، وصيام رمضان أحب إلى الله من صيام الاثنين والخميس ، والأيام الست من شوال ، وما أشبهها . كل الفرائض أحب إلى الله من النوافل .
ووجه ذلك أن الفرائض وكدها الله عز وجل فألزم بها العباد ، وهذا دليل على شدة محبته لها عز وجل ، فلما كان يحبها حباً شديداً ألزم بها العباد ، وأما النوافل فالإنسان حر ؛ إن شاء تنفل وزاد خيراً ، وإن شاء لم يتنفل ، لكن الفرائض أحب إلى الله وأوكد ، والغريب أن الشيطان يأتي الناس ، فتجدهم في النوافل يحسنونها تماماً ؛ تجده مثلاً في صلاة الليل يخشع ولا يتحرك ، ولا يذهب قلبه يميناً ولا شمالاً ، لكن إذا جاءت الفرائض فالحركة كثيرة ، والوساوس كثيرة ، والهواجس بعيدة ، وهذا من تزيين الشيطان ، فإذا كنت تزين النافلة ؛ فالفريضة أحق بالتزيين ، فأحسن الفريضة لأنها أحب إلى الله عز وجل من النوافل .
( وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ) اللهم نسألك من فضلك . النوافل تقرب إلى الله وهي تكمل الفرائض ، فإذا أكثر الإنسان من النوافل مع قيامه بالفرائض ، نال محبة الله ، فيحبه الله ، وإذا أحبه فكما يقول الله ـ عز وجل ـ ( كنت سمعه الذي سمع به وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ) يعني أنه يكون مسدداً له في هذه الأعضاء الأربعة ؛ في السمع ، يسدده في سمعه فلا يسمع إلا ما يرضي الله . كذلك أيضاً بصره ، فلا ينظر إلا إلي ما يحب الله النظر إليه ، ولا ينظر إلي المحرم، ولا ينظر نظراً محرماً ؛ ويده ؛ فلا يعمل بيده إلا ما يرضي الله ، لأن الله يسدده ، وكذلك رجله ؛ فلا يمشي إلا إلى ما يرضي الله ، لأن الله يسدده ، فلا يسعى إلا إلى ما فيه الخير ، وهذا يعني قوله : ( كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ) .
وليس المعنى أن الله يكون نفس السمع ، ونفس البصر ، ونفس اليد ، ونفس الرجل ـ حاشا لله ـ فهذا محال ، فإن هذه أعضاء وأبعاض لشخص مخلوق لا يمكن أن تكون هي الخالق ، ولأن الله تعالى أثبت في هذا الحديث في قوله : ( وأن سألني أعطيته ، ولئن استعاذ ني لأعيذنه ) فأثبت سائلاً ومسؤولاً ، وعائذاً ومعوذاً به ، وهذا غير هذا . ولكن المعنى أنه يسدد الإنسان في سمعه وبصره وبطشه ومشيه .
وفي قول سبحانه وتعالى في هذا الحديث القدسي : ( وإن سألني أعطيته ) دليل على أن هذا الولي الذي تقرب إلى الله تعالى بالفرائض ثم بالنوافل إذا سال الله أعطاه ، فكان مجاب الدعوة ، وهذا الإطلاق يقيد بالأحاديث الأخرى الدالة على أنه يعطي السائل سؤاله ما لم يسال إثماً أو قطيعة رحم ، فإن سال إثماً فإنه لا يجاب ، لكن الغالب أن الولي لا يسأل الإثم ، لأن الولي هو المؤمن التقي ، والمؤمن التقي لا يسأل إثماً ولا قطيعة رحم .
( ولئن استعاذ ني لأعيذنه ) يعني لئن اعتصم بي ولجأ إلى من شر كل ذي شر لأعيذنه ، فيحصل له بإعطائه مسئوله وإعاذته مما يتعوذ منه المطلوب ، ويزول عنه الموهوب .
وفي هذا الحديث عدة فوائد :
أولاً : إثبات الولاية له ـ عز وجل ـ وولاية الله تعالى تنقسم إلى قسمين : ولاية عامة ، وهي السلطة على جميع العباد ، والتصرف فيهم بما أراد . كل إنسان ؛ فإن الذي يتولى أموره وتدبيره وتصريفه هو الله عز وجل ، ومن ذلك قوله ـ تبارك وتعالى ـ ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) (الأنعام:61،62) ، فهذه ولاية عامة تشمل جميع الخلق ، والولاية العامة تكون بغير سبب من الإنسان ، ويتولى الله الإنسان ، شاء أم أبى ، وبغير سبب منه .
أما الولاية الخاصة : مثل قوله تعالى : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) (البقرة:257) ، والولاية الخاصة تكون بسبب من الإنسان ، فهو الذي يتعرض لولاية الله حتى يكون الله ولياً له : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:63) .
ومن فوائد هذا الحديث :
فضيلة أولياء الله ، وأن سبحانه وتعالى يعادي من عاداهم ، بل يكون حرباً عليهم عز وجل .
ومن فوائد هذا الحديث :
أن الأعمال الواجبة من صلاة ، وصدقة ، وصوم ، وحج ، وجهاد ، وعلم ، وغير ذلك ؛ افضل من الأعمال المستحبة ؛ لأن الله تعالى قال : ( ما تقرب إلى عبدي بشيء احب إلى مما افترضت عليه ) .
ومن فوائده :
إثبات المحبة لله ـ عز وجل ـ ،وأن الله تعالى يحب الأعمال بعضها أكثر من بعض ، كما أنه يحب الأشخاص بعضهم أكثر من بعض ، فالله عز وجل يحب العاملين بطاعته ويحب الطاعة ، وتتفاوت محبته ـ سبحانه وتعالى ـ على حسب ما تقتضيه حكمته .
ومن فوائد هذا الحديث :
أن الإنسان إذا تقرب إلى الله بالنوافل مع القيام بالواجبات فإنه يكون بذلك معاناً في جميع أموره ؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي : ( وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه .. ) الخ .
وفيه : دليل أيضاً على أن من أراد أن يحبه الله فأمر سهل عليه إذا سهله عليه ، يقوم بالواجبات ويكثر من التطوع بالعبادات ، فبذلك ينال محبة الله ، وينال ولاية الله .
ومن فوائد هذا الحديث :
إثبات عطاء الله عز وجل ، وإجابة دعوته لوليه ، لقوله : ( إن سألني أعطيته ، ولئن استعاذ ني لأعيذنه )
وأتى به المؤلف في باب المجاهدة ؛ لأن النفس تحتاج إلى جهاد في القيام بالواجبات ، ثم بفعل المستحبات ، نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته .



(50) أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق باب التواضع ، رقم (6502) .
.

الموضوع السابق


قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) . وقال تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين ُ) (الحجر:99) . وقال تعالى : ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (المزمل:8) ، أي انقطع إليه . وقال تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) ، وقال تعالى : ( وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ) (المزمل:20) ، وقال تعالى : ( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273) ، والآيات في الباب كثيرة معلومة .