102 ـ الثامن : عن أبي عبد الله حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنهما قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ، ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة ، فمضى ، فقلت يركع بها ، ثم افتتح النساء : فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلاً ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ، ثم ركع فجعل يقول : ( سبحان ربي العظيم ) فكان ركوعه نحوا من قيامه ثم قال : ( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ) ثم قام قياماً قريباً مما ركع ، ثم سجد فقال : ( سبحان ربي الأعلى ) فكان سجوده قريباً من قيامه ) رواه مسلم(67) .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ـ يعني في ليلة من الليالي ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يصلي معه بعض أصحابه ، فمره صلى معه حذيفة ، ومرة صلى معه ابن مسعود رضي الله عنه ، ومرة صلى معه ابن عباس رضي الله عنهما ، وكان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يصلي في الليل وحده ، لأن صلاة الليل لا تشرع فيها الجماعة إلا في رمضان ، لكن لا بأس أن تقام الجماعة فيها أحياناً كما في هذا الحديث ، يقول فافتتح سورة البقرة ، فقلت يركع عند المائة ، فقرأ السورة كاملة ، فظن حذيفة أنه يركع بها ؛ أي أنه إذا أكمل سورة البقرة ركع ، ولكنه مضى صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة النساء كاملة ، فقال حذيفة يركع بها ، ولكنه مضى فقرأ سورة آل عمران كاملة في ركعة واحدة ، يقرأ مترسلاً غير مستعجل ، إذا مر بآية تسبيح سبح ، وإذا مر بآية سؤال سأل ، وإذا مر بآية تعوّذ تعوذ .
فجمع عليه الصلاة والسلام بين القراءة ، وبين الذكر ، وبين الدعاء ، وبين التفكر ؛ لأن الذي يسأل عند السؤال ، ويتعوّذ عن التعوذ ، ويسبح عن التسبيح ، لا شك أنه يتأمل قراءته ويتفكر فيها ، فيكون هذا القيام روضة من رياض الذكر ؛ قراءة وتسبيحاً ودعاءً وتفكراً ، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا كله لم يركع . فهذه السور الثلاث : البقرة والنساء وآل عمران أكثر من خمسة أجزاء وربع ، إذا كان الإنسان يقرؤها بترسل ويستعين عند فتح الوعيد ويسأل عن آية الرحمة، ويسبح عند آية التسبيح ، كم تكون المدة ؟ لا شك أنها تكون طويلة ، ولهذا كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقوم حتى تتورم قدماه وتتفطر .
حتى إن ابن مسعود ـ وهو شاب ـ لما صلى معه ليلة من الليالي ، يقول : أطال النبي صلى الله عليه وسلم القيام حتى هممت بأمر سوء ، قالوا : بم هممت قال : هممت أن أجلس وأدعه ، عجز أن يصبر من طول القيام .
ثم أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ركع بعد أن أتم السور الثلاث فقال : سبحان ربي العظيم ، وأطال الركوع نحواً من قيامه ، ثم رفع من ركوعه ، وأطال القيام بعد الركوع ، وقال : سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ، حتى كان قيامه نحو من ركوعه ، ثم سجد صلى الله عليه وسلم فقال : سبحان ربي الأعلى ، وأطال السجود ، حتى كان سجوده نحواً من قيامه .
وهكذا كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يصلي فيجعل الصلاة متناسبة ؛ إذا أطال القيام ؛ أطال الركوع ، والسجود ، والقيام الذي بعد الركوع والجلوس الذي بين السجدتين ، وإذا خفف القراءة ؛ خفف الركوع والسجود والقيام ؛ من أجل أن تكون الصلاة متناسبة ، وهذا فعله صلوات الله وسلامه عليه ـ في الفرض وفي النفل أيضاً ، فكان صلى الله عليه وسلم يجعل صلاته متناسبة .

وفي هذا الحديث عدة فوائد :
الفائدة الأولى : وهي التي ساق المؤلف الحديث من أجلها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل عمل المجاهد الذي يجاهد نفسه على الطاعة ؛ لأنه يعمل هذا العمل الشاق ؛ كل هذه ابتغاء وجه الله ورضوانه ، كما قال الله تعالى في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ( تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً ) (الفتح: من الآية29) .
ومنها : جواز إقامة الجماعة في صلاة الليل ، لكن هذا ليس دائماً ، إنما يفعل أحياناً في غير رمضان ، أما في رمضان فإن من السنة أن يقوم الناس في جماعة .
ومنها : أنه ينبغي للإنسان في صلاة الليل إذا مر بآية رحمة أن يقف ويسأل ، مثل لو مر بذكر الجنة يقف ويقول : اللهم اجعلني من أهلها ، اللهم إني أسألك الجنة ، وإذا مر وعيد يقف ، يقول : أعوذ بالله من ذلك ، أعوذ بالله من النار ن وإذا مر بآية تسبيح ، يعني تعظيم لله سبحانه وتعالى ؛ يقف ويسبح الله ويعظمه ؛ هذا في صلاة الليل ، أما صلاة الفريضة فلا بأس أن يفعل هذا ، ولكنه ليس بسنة ، إن فعله فإنه لا ينهي عنه ، وإن تركه فإنه لا يؤمر به ، بخلاف صلاة الليل ، فإن الأفضل أن يفعل ذلك ، أي يتعوذ عند آية الوعيد ، ويسأل ، عند آية الرحمة ، ويسبح عند آية التسبيح .
ومن فوائد الحديث : جواز تقديم السور بعضها على بعض ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم سورة النساء على سورة آل عمران ، والترتيب أن سورة آل عمران مقدمة على سورة النساء ، ولكن هذا ـ والله أعلم ـ كان قبل السنة الأخيرة ، فإن السنة الأخيرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم سورة آل عمران على سورة النساء ؛ ولهذا رتبها الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على هذا الترتيب ، أي أن آل عمران قبل سورة النساء ، وكان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقرن بين البقرة وآل عمران ؛ في مثل قوله عليه الصلاة والسلام : ( اقرؤوا الزهراوين : البقرة وآل عمران ، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة )(68) فالمهم أن الترتيب في الأخير كان تقديم سورة آل عمران على سورة النساء .
ومن فوائد هذا الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح ويكرر التسبيح ؛ لأن حذيفة قال : كان يقول : سبحان ربي العظيم ، وكان يطيل ، ويقول سبحان ربي الأعلى ، وذكر أنه يطيل ، ولم يذكر شيئاً أخر ، فدل هذا على أنك مهما كررت من التسبيح في الركوع والسجود فإنه سنة ، ولكن مع هذا كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول في ركوعه وفي سجوده ، ويكثر من هذا القول : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي )(69)، وكان يقول أيضاً : ( سبوح قدوس رب الملائكة والروح )(70) فكل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ودعاء ؛ فإنه يسن للإنسان أن يقوله في صلاته . نسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم اتباع رسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً ، وأن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم .



(67) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل ،رقم (772) .
(68) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة ،رقم (804) .
(69) أخرجه البخاري ، كتاب الأذان ، باب الدعاء في الركوع ،رقم (794) ،ومسلم ، كتاب الصلاة ، باب ما يقال في الركوع والسجود ، رقم (484) .
(70) أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب ما يقال في الركوع والسجود ، رقم (487) .