106 ـ الثاني عشر : عن أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهل الصفة ـ رضي الله عنه ـ قال : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فآتيه بوضوئه وحاجته ، فقال : ( سلني ) ، فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال : ( أو غير ذلك ؟) قلت : هو ذاك ، قال : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم(76) .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقل عن ربيعه بن كعب الأسلميّ ـ رضي الله عنه ـ وكان خادماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن أهل الصفة . والذين يخدمون النبي صلى الله عليه وسلم من الأحرار عدد ، منهم ربيعه بن كعب ، ومنهم ابن مسعود ، ولهم الشرف بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من أهل الصفة ؛ وأهل الصفة رجال مهاجرون ، هاجروا إلى المدينة ، وليس لهم مأوى ، فوطنهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صفة في المسجد النبوي ، وكانوا أحياناً يبلغون الثمانين ، وأحياناً دون ذلك ، وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يأتونهم بالطعام واللبن وغيره ، مما يتصدقون به عليهم .
فكان ربيعة بن كعب ـ رضي الله عنه ـ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يأتيه بوضوئه وحاجته . الوضوء بالفتح : الماء الذي يتوضأ به ، والضوء بالضم : فعل الوضوء ، وأما الحاجة فلم يبينها ، ولكن المراد : كل ما يحتاجه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأتي به إليه .
فقال له ذات يوم : (سلني )، يعني : اسأل ، من أجل أن يكافئه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ على خدمته إياه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق ، وكان يقول : ( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه )(77) ، فأراد أن يكافئه ، فقال له : (سلني) يعني اسأل ما بدا لك ، وقد يتوقع الإنسان أن هذا الرجل سيسأل مالاً ، ولكن همته كانت عالية ؛ قال : أسألك مرافقتك في الجنة ، يعني كأنه يقول : كما كنت مرفقاً لك في الدنيا ، أسألك مرافقتك في الجنة ، قال : ( أو غير ذلك ؟) يعني أو تسأل غير ذلك مما يمكن أن أقوم به ؟ قال : هو ذاك ، يعني : لا أسال إلا ذاك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فأعني على نفسك بكثرة السجود ) .
وهذا هو الشاهد ؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) ، وكثرة السجود تستلزم كثرة الركوع ، وكثرة الركوع تستلزم كثرة القيام ؛ لأن كل صلاة في كل ركعة منها وسجودان ، فإذا كثر السجود كثر الركوع وكثر القيام ، وذكر السجود دون غيره ، لأن السجود أفضل هيئة للمصلي ، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وإن كان المصلى قريباً من الله ؛ قائماً كان ، أو راكعاً ، أو ساجداً ، أو قاعداً ، لكن أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد .
وفي هذا دليل على فضل السجود ، واختلف أهل العلم هل الأفضل إطالة القيام أم إطالة الركوع والسجود ؟ فمنهم من قال : الأفضل إطالة القيام ، ومنهم من قال : الأفضل إطالة الركوع والسجود ، والصحيح أن الأفضل أن تكون الصلاة متناسبة ، وإلا فإن القيام بلا شك أطول من الركوع والسجود في حد ذاته ، لكن ينبغي إذا أطال القيام أن يطيل الركوع والسجود ، وإذا قصر القيام أن يقصر الركوع والسجود .
وفي هذا دليل على أن الصلاة مهما أكثرت منها فهو خير إلا أنه يستثنى من ذلك أوقات النهي ، وأوقات النهي هي : من صلاة الفجر إلى ارتفاع الشمس مقدر رمح ، وعند قيامها في منتصف النهار حتى تزول ، ومن صلاة العصر إلى الغروب ، فإن هذه الأوقات الثلاثة لا يجوز للإنسان أن يصلي فيها صلاة تطوع ، إلا إذا كان لها سبب ، كتحية المسجد ، وسنة الوضوء ، وما أشبه ذلك .
وفي الحديث دليل على جواز استخدام الرجل الحر ، وأن ذلك لا يعد من المسألة المذمومة ، فلو أنك قلت لشخص من الناس ممن يقومون بخدمتك : أعطني كذا ، وأعطني كذا ، فلا بأس ، وكذلك لو قلت لصاحب المنزل : أعطيني ماء ، صب لي فنجن قهوة ، أو ما أشبه ذلك ، فلا بأس ، لأن هذا لا يعد من السؤال المذموم ، بل هذا من تمام الضيافة ، وقد جرب العادة بمثله .
وفيه دليل أيضاً على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يدخل أحداً الجنة ، ولهذا لم يضمن لهذا الرجل أن يعطيه مطلوبه ، ولكنه قال له : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) فإذا قام بكثرة السجود التي أوصاه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حري بأن يكون مرافقاً للرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة . والله الموفق .



(76) أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب فضل السجود والحث عليه ، رقم (489) .
(77) أخرجه أبو داود ، كتاب الزكاة ، باب عطية من سأل بالله ، رقم (1672) ، والنسائي كتاب الزكاة ، باب من سأل بالله عز وجل رقم (2567) .