109 ـ الخامس عشر : عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : غاب عمي أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله ، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع .فلما كان يوم أحد أنكشف المسلمون ، فقال : اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ ، الجنة ورب النضر ، أني أجد ريحها من دون أحد . قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ! قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركين ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، قال أنس : كنا نرى ، أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) إلى آخرها . متفق عليه(81) . قوله : ( ليرين الله ) رؤى بضم الياء وكسر الراء ؛ أي: ليظهرن الله ذلك للناس ، وروي بفتحهما ، معناه ظاهر ، والله أعلم .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أنس بين مالك ـ رضي الله عنه ـ عن عمه أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ أن أنسأ لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وسلم ـ يعني أنس بن النضر ـ في بدر ، وذلك لأن غزوة بدر خرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يريد القتال ، وإنما يريد عير قريش وليس معه إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، معهم سبعون بعيراً وفرسان يتعاقبون عليها ، وقد تخلف عنها كثير من الصحابة لأنها ليست غزوة ، ولم يدع إليها أحد ؛ وإنما خرج إليها الخفاف من الناس .
قال أنس بن النضر للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يبين له أنه لم يكن معه في أول قـتال قـاتل فيه المشركين ، وقال : لئن أدركت قتالاً ليرين الله ما أصنع .
فلما كانت أحد ، وهي بعد غزوة بدر بسنة وشهر ، خرج الناس وقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وصارت الدائرة في أول النهار للمسلمين ، ولكن ، لما تخلف الرماة عن الموقع الذي جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه ، ونزلوا من الجبل ؛ كر فرسان المشركين على المسلمين من خلفهم ، واختلطوا بهم ، وانكشف المسلمون ، وصارت الهزيمة . لما انكشف المسلمون تقدم أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ وقال : ( اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ) يعني أصحابه ، ( وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ) ، يعني أصحابه، ( وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ) يعني المشركين .
ثم تقدم ـ رضي الله عنه ـ فاستقبله سعد بن معاذ ، فسأله إلي أين ؟ قال: يا سعد ، إني لأجد ريح الجنة دون أحد ، وهذا وجدان حقيقي ، ليس تخيلاً أو توهماً ، ولكن من كرامة الله لهذا الرجل شم رائحة الجنة قبل أن يستشهد ـ رضي الله عنه ـ من أجل أن يقدم ولا يحجم ، فتقدم فقاتل ، فقتل ـ رضي الله عنه ـ استشهد ، ووجد فيه بضع وثمانون ، ما بين ضربة بسيف ، أو برمح ، أو بسهم ، حتى إنه قد تمزق جلده ، فلم يعرفه أحد إلا أخته ، لم تعرفه إلا ببنانه ـ رضي الله عنه .
فكان المسلمون يرون أن الله قد أنزل فيه وفي أشباهه هذه الآية : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23) ، ولا شك أن هذا وأمثاله ـ رضي الله عنهم ـ يدخلون دخولاً أولياً في هذه الآية ، فإنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، حيث قال أنس : والله ليرين الله ما أصنع ، ففعل ، فصنع صنعاً لا يصنعه أحد إلا من منْ الله عليه بمثله حتى استشهد .
ففي هذا الحديث دليل شاهد للباب ، وهو مجاهدة الإنسان نفسه على طاعة الله ، فإن أنس بن النضر جاهد نفسه هذا الجهاد العظيم ، حتى تقدم يقاتل أعداء الله بعد أن انكشف المسلمون وصارت الهزيمة حتى قتل شهيدً ـ رضي الله عنه ـ والله الموفق .


(81) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) ، رقم ( 2805)، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب ثبوت الجنة للشهيد ، رقم (1903) .

الموضوع التالي


110 ـ السادس عشر : عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري ـ رضي الله عنه ـ قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا : مراء وجاء رجل أخر فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغني عن صاع هذا ! فنزلت : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ) (التوبة:79) . متفق عليه(82) . ( نحامل ) بضم النون ، وبالحاء المهملة : أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة ، ويتصدق بها .