110 ـ السادس عشر : عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري ـ رضي الله عنه ـ قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا : مراء وجاء رجل أخر فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغني عن صاع هذا ! فنزلت : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ) (التوبة:79) . متفق عليه(82) . ( نحامل ) بضم النون ، وبالحاء المهملة : أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة ، ويتصدق بها .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ نقلاً عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ قال : لما نزلت آية الصدقة : يعني الآية التي فيها الحث على الصدقة ، والصدقة هي : أن يتبرع الإنسان بماله للفقراء ابتغاء وجه الله ، وسميت صدقة لأن بذل المال لله ـ عز وجل ـ دليل على صدق الإيمان بالله ، فإن المال من الأمور المحبوبة للنفوس ، قال الله تعالى : ( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:20) ، جماً : أي كثيراً عظيماً ، وحيث إن المحبوب لا يبذل إلا لمن هو أحب منه ، فإذا بذله الإنسان ابتغاء وجه الله ؛ كان ذلك دليلاً على صدق الإيمان .
فلما نزلت هذه الآية جعل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يبادرون ويسارعون في بذل الصدقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه هي عادتهم ـ رضي الله عنهم ـ أنهم إذا نزلت الآيات بالأوامر بادروها وامتثلوها ، وإذا نزلت بالنواهي بادروا بتركها ، ولهذا لما نزلت آية الخمر التي فيها تحريم الخمر ، وبلغت قوماً من الأنصار ، وكان الخمر بين أيديهم يشربون قبل أن يحرم ، فمن حين ما سمعوا الخبر أقلعوا عن الخمر ، ثم خرجوا بالأواني يصبونها في الأسواق حتى جرت الأسواق في الخمر .
وهذا هو الواجب على كل مؤمن ؛ إذا بلغه عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم شيء أن يبادر بما يجب عليه ؛ من امتثال هذا الأمر، أو اجتناب هذا النهي .
والمهم هنا أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بدءوا يأتون بالصدقة ، كل واحد يحمل بقدرته من الصدقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل بصدقة كثيرة ، وجاء رجل بصدقة قليلة ، فكان المنافقون إذا جاء الرجل بالصدقة الكثيرة ؛ قالوا : هذا مراءٍ ، ما قصد به وجه الله . وإذا جاء الرجل بالصدقة القليلة قالوا : إن الله غني عنه ، وجاء رجل بصاع ، قالوا : إن الله غني عن صاعك هذا .
وهؤلاء هم المنافقون ، والمنافقون هم الذين يظهرون خلاف ما يبطنون ، ويظهرون الشماتة بالمؤمنين دائماً ، جعلوا أكبر همهم وأعذب مقال لهم ، وألذ مقال على أسماعهم ؛ أن يسمعوا ويقولوا ما فيه سب المسلمين والمؤمنين ـ والعياذ بالله ـ لأنهم منافقون ، وهم العدو ، كما قال الله ـ عز وجل ـ فاحذرهم المنافق الذي يظهر لك خلاف ما يبطن .
فهؤلاء صاروا إذا جاء رجل بكثير ، قالوا : هذا مراءٍ ، وإن جاء بقليل ، قالوا : إن الله غني عن صاعك ولا ينفعك ، فأنزل الله ـ عز وجل ـ : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ) (التوبة:79) ويلمزون : يعني يعيبون ، والمطوعين :هم المتطوعين المتصدقين ، (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُم ) ، هذه معطوفة على قوله: (الْمُطَّوِّعِينَ ) يعني ويلمزون الذين لا يجدون إلا جهدهم ، فهم يلمزون هؤلاء وهؤلاء، ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )، فهم سخروا بالمؤمنين فسخر الله منهم ، والعياذ بالله .
ففي هذا دليل على حرص الصحابة على استباق الخير ، ومجاهدتهم أنفسهم على ذلك، أيضاً على أن الله ـ عز وجل ـ يدافع عن المؤمنين ،وأنظر كيف أنزل الله آية في كتاب الله ، مدافعة عن المؤمنين الذين كان هؤلاء المنافقين يلمزونهم .
وفيه دليل على شدة العداوة من المنافقين للمؤمنين ، وأن المؤمنين لا يسلمون منهم ؛ إن عملوا كثيراً سبوهم ، وإن عملوا قليلاً سبوهم ، ولكن الأمر ليس إليهم ، بل الله ـ عز وجل ـ ولهذا سخر الله منهم ، وتوعدهم بالعذاب الأليم في قوله : (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
أما حكم المسألة هذه ؛ فإن الله تعالى قال في كتابه : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7-8) ، القليل والكثير من الخير سيراه الإنسان ، ويجازى به ، والقليل والكثير من الشر سيراه الإنسان ، ويجازى عليه ، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الإنسان إذا تصدق بعدل تمرة ) أي بما يعادلها ( من كسـب طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله تعالى يأخـذها بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه(83) ، حتى تكون مثل الجبل )(84) .
وقارن بين حبة من التمر وبين الجبل ؛ لا نسبة ، الجبل أعظم بكثير، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يجزي الإنسان على ما عمل من خير قل أو كثر، ولكن ، احرص على أن تكون نيتك خالصة لله ، واحرص على أن تكون متبعاً في ذلك رسول صلى الله عليه وسلم .

الموضوع التالي


111 ـ السابع عشر : عن سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعه بن يزيد ،عن أبي إدريس الخولاني ،عن أبي ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته : فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته : فإستطعموني أطعمكم ، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً : فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد ، واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. رواه مسلم(85)وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث .

الموضوع السابق


109 ـ الخامس عشر : عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : غاب عمي أنس بن النضر ـ رضي الله عنه ـ عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله ، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع .فلما كان يوم أحد أنكشف المسلمون ، فقال : اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ ثم تقدم، فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ ، الجنة ورب النضر ، أني أجد ريحها من دون أحد . قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ! قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركين ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، قال أنس : كنا نرى ، أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) إلى آخرها . متفق عليه(81) . قوله : ( ليرين الله ) رؤى بضم الياء وكسر الراء ؛ أي: ليظهرن الله ذلك للناس ، وروي بفتحهما ، معناه ظاهر ، والله أعلم .