111 ـ السابع عشر : عن سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعه بن يزيد ،عن أبي إدريس الخولاني ،عن أبي ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته : فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته : فإستطعموني أطعمكم ، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً : فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد ، واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. رواه مسلم(85)وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ في باب المجاهدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه عن ربه ـ تبارك وتعالى ـ يعني أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حدث عن الله أنه قال ... إلى آخره ، وهذا يسمى عند أهل العلم بالحديث القدسي ، أو الحديث الإلهي ، أما ما كان من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه يسمى بالحديث النبوي .
وهذا الحديث القدسي يقول الله تعالى فيه : ( يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي )، أي ألا أظلم أحداً ، لا بزيادة سيئات لم يعملها ، ولا بنقص حسنات عملها ، بل هو ـ سبحانه وتعالى ـ حكم ، عدل ، محسن ، فحكمه وثوابه لعباده دائر بين أمرين : بين فضل وعدل ، فضل لمن عمل الحسنات ، وعدل لمن عمل السيئات ، وليس هناك شيء ثالث وهو الظلم .
أما الحسنات فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ يجازي الحسنة بعشر أمثالها ، من يعمل حسنة يثاب بعشر حسنات ، أما السيئة فبسيئة واحدة فقط ، قال الله تعالى في سورة الأنعام ـ وهي مكية : ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام:160) ، ولا يظلمون بنقص ثواب الحسنات ، ولا يظلمون بزيادة جزاء السيئات ، بل ربنا ـ عز وجل ـ يقول : ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طـه:112) ، ظلماً بزيادة في سيئاته ، ولا هضماً بنقص من حسناته .
وفي قوله تعالى : ( إني حرمت الظلم على نفسي ) دليل على أنه ـ جل وعلا ـ يحرم على نفسه ، ويوجب على نفسه ، فمما أوجب على نفسه : الرحمة ، قال تعالى : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة) (الأنعام:54) ، ومما حرم على نفسه : الظلم ، وذلك لأنه فعال لما يريد ، يحكم بما يشاء ، فكما أنه يوجب على عباده ويحرم عليهم ؛ يوجب على نفسه ويحرم عليها ـ جل وعلا ـ، لأن له الحكم التام المطلق .
وقوله تعالى : ( وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) أي لا يظلم بعضكم بعضاً ، والجعل هنا هو الجعل الشرعي ، وذلك لأن الجعل الذي أضافه الله إلى نفسه : إما أن يكون كونياً مثل قوله تعالى : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ) (النبأ:10، 11) ، وإما أن يكون شرعياً مثل قوله تعالى : ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ) (المائدة:103) ، ما جعل : أي ما شرع ، وإلا فقد جعل ذلك كوناً ، لأن العرب كانوا يفعلون هذا ، ومثل هذا الحديث : ( جعلته بينكم محرماً ) أي جعلته جعلاً شرعياً لا كونياً ، لأن الظلم يقع .
وقوله : (جعلته بينكم محرماً ) ،الظلم بالنسبة للعباد فيما بينهم يكون في ثلاثة أشياء بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله وهو يخطب الناس في حجة الوداع : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا هل بلغت ؟ قالوا :نعم ، قال: اللهم فأشهد )(86) . فهذه ثلاثة أشياء : الدماء ، والأموال ، والأعراض .
فالظلم فيما بين البشر حرام في الدماء ، فلا يجوز لأحد أن يتعدى على دم أحد ، ولا على دم تفوت به النفس وهو القتل ، ولا على دم يحصل به النقص ، كدم الجروح ، وكسر العظام ، وما أشبهها ، كل هذا حرام لا يجوز .
وأعلم أن كسر عظم الميت ككسره حياً ، كما جاء ذلك عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام (87)ـ ، فالميت محترم لا يجوز أن يؤخذ من أعضائه شيء ، ولا أن يكسر من أعضائه شيء ، لأنه أمانة وسوف يبعث بكامله يوم القيامة ، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تأخذ منه شيئاً .
ولهذا نص فقهاء الحنابلة ـ رحمهم الله على أنه لا يجوز أن يؤخذ من الميت شيء من أعضائه ، ولو أوصى به ، وذلك لأن الميت محترم ، كما أن الحي محترم . كسر عظم الميت ككسره حياً ، فإن أخذنا من الميت عضواً ، أو كسرنا منه عظماً ، كان ذلك جناية عليه ، وكل اعتداءً عليه ، وكنا آثمين بذلك .
والميت نفسه لا يستطيع أن يتبرع بشيء من أعضائه ، لأن أعضاءه أمانة عنده ، أمانة لا يحل له أن يفرط فيها ، ولهذا قال الله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) ، فسرها عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بالإنسان إذا كان عليه جنابة ، وكان في البرد ، وخاف أن اغتسل أن يتضرر ، جعل عمرو بن العاص هذا داخلاً في الآية ، وذلك حين كان عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ في سرية ، وأجنب ، وكانت الليلة باردة فتيمم ، وصلى بأصحابه ، فلما رجعوا إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبلغه الخبر ، قال : ( يا عمرو ، صليت بأصحابك وأنت جنب ) ـ يعني لم تغتسل ـ ؟ قال : يا رسول الله ، إني ذكرت قول الله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)(88) (النساء:29) ، وخفت البرد فتيممت ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقره على فعله وعلى استدلاله بالآية ، ولم يقل : إن الآية لا تدل على هذا .
فإذن كل شيء يضر أبداننا ، أو يفوت منها شيئاً ، فإنه لا يحل لنا أن نفعله ، لقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) . فما حرم علينا أن نتناول الدخان وغيره من الأشياء الضارة إلا من أجل حماية البدن ، فالبدن محترم . فقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( دماءكم ) ، يشمل الدم الذي يهلك به الإنسان وهو القتل ، والدم الذي بدون ذلك ، وهو الجرح ، أو كسر العظم ، أو ما أشبه ذلك .
أما قوله صلى الله عليه وسلم : ( وأموالكم ) فإن الأموال قد حرم الله ـ سبحانه وتعالى ـ على بعضنا أن يأخذ من مال أخيه بغير حق ، بأي نوع من الأنواع ؛ سواء أخذه غصباً بأن يأخذ بالقوة ، أو أخذه سرقة ، أو اختطافاً ، أو خيانة ، أو غشاً ، أو كذباً ، بأي نوع من هذه الأنواع يأخذه ، فإنه حرام عليه .
وعلى هذا فالذين يبيعون على الناس بالغش ـ ولا سيما أهل الخضار ـ فإن كل مالٍ ، بل كل قرش يدخل عليهم من زيادة في الثمن بسبب الغش ؛ فإنه حرام ، فالذين يغشون في البيع أو في الشراء يرتكبون محظورين :
المحظور الأول : العدوان على إخوانهم المسلمين بأخذ أموالهم بغير حق .
المحظور الثاني : أنهم ينالون تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم منهم ، وبئس البضاعة بضاعة يلتحق فيها صاحبها بالبراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه : ( من غشنا فليس منا )(89) .
ومن ذلك ما يفعله بعض الجيران ، حيث تجده يدخل المراسيم على جاره من أجل أن تزيد أرضه ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ( من اقتطع من الأرض شبر بغير حق ، فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين)(90) يكون يوم القيامة من سبع ارضين ، في عنقه طرق من سبع أرضين ـ والعياذ بالله ـ يحمله في يوم المحشر . وهذا من الظلم .
ومن الظلم أيضاً : أن يكون لشخص على شخص دراهم ، ثم ينكر الذي عليه الحق ، ويقول : ليس لك عندي شيء ، فهذا من أكل المال بالباطل ، حتى لو فرض أنه تحاكم إلى القاضي مع خصمه ، وغلبه عند القاضي ، فإنه لا يغلبه عند الله ، قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ( إنكم تختصمون إلى ، لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فاقضي له ، وإنما أقضي بنحو ما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ؛ فإنما أقتطع له جمرة من نار ، فليستقل أو ليستكثر )(91) فلا تظن أنك إن غلبت خصمك عند القاضي ، وكنت مبطلاً ، تسلم بهذا في الآخرة أبداً ؛ لأن القاضي إنما يقضي بنحو ما يسمع ولا يعلم الغيب ، ولكن علام الغيوب ـ جل وعلا ـ هو الذي يحاسبك يوم القيامة .
وكذلك أيضاً من أكل الأموال : أن يدعي شخص على آخر ما ليس له ، ويقيم على ذلك البينة بالشهادة الزور ، ويحكم له بذلك ، فإن هذا من أكل المال بالباطل ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، ولكنها كلها محرمة إذا لم تكن بحق ولهذا قال ـ عز وجل ـ ( فلا تظالموا ) .
أما الأعراض فهي أيضاً حرام ، فلا يحل للإنسان أن يقع في عرض أخيه ، فيغتابه في المجلس أو يسبه ، فإن ذلك من كبائر الذنوب . قال الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) (الحجرات:12) أنظر للترتيب : أجتنبوا كثيراً من الظن ، فإن ظن الإنسان بأخيه شيئاً تجسس عليه ، ولهذا قال : (وَلا تَجَسَّسُوا) ، فإذا تجسس صار يغتابه ، ولهذا قال في الثالثة : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) . ثم قال تعالى : ( أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ) ؟ الجواب : لا . لا يجب ، بل يكره ، ولهذا قال : ( فَكَرِهْتُمُوهُ ) ، قال بعض المفسرين : إذا كان يوم القيامة ، فإنه يؤتي بالرجل الذي اغتابه الشخص ، يمثل له بصورة إنسان ميت ، ثم يقال له : كل من لحمه ، ويكره على ذلك ، وهو يكرهه ، لكن يكره على هذا عقوبة له ، والعياذ بالله .
فالغيبة ـ وهي انتهاك عرض أخيك ـ محرمة ، وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ليلة عرج به بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم ، يعني يكرون الوجوه والصدور بهذه الأظفار التي من النحاس ، فقال : ( يا جبريل ، من هؤلاء ؟ ) قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويفعلون في أعراضهم(92). نعوذ بالله .

ثم أن الإنسان إذا انتهك عرض أخيه ، فإن أخاه يأخذ في الآخرة من حسناته ، ولهذا يذكر أن بعض السلف قيل له : إن فلان يغتابك ، فقال : مؤكداً ؟ قال : نعم ، اغتابك ، فصنع هدية له ، ثم بعث بها إليه ، فاستغرب الرجل ! كيف يغتابه ، ويرسل له هدية ؟ قال : نعن إنك أهديت إلي حسنات ، والحسنات تبقى ، وأن أهديت إليك هدية تذهب في الدنيا ، فهذه مكافأة على هديتك لي , انظر فقه السلف ـ رضي الله عنهم .
فالحاصل أن الغيبة حرام ، ومن كبائر الذنوب ، ولا سيما إذا كانت الغيبة في ولاة الأمور من الأمراء أو العلماء ، فإن غيبة هؤلاء أشد من غيبة سائر الناس ، لأن غيبة العلماء تقلل من شأن العلم الذي في صدورهم ، والذي يعلمونه الناس ، فلا يقبل الناس ما يأتون به من العلم ، وهذا ضرر على الدين ، وغيبة الأمراء تقلل من هيبة الناس لهم ؛ فيتمردون عليهم وإذا تمرد الناس على الأمراء فلا تسأل عن الفوضى :
لا يـصـلـح الـنـاس فــوضـــى لا ســراة لــهــم
ولا ســـراة إذا جـــهــــالـهــم ســـــادوا
فنسأل الله أن يحمينا وإياكم مما يغضبه ، إنه جواد كريم .
ثم قال الله تعالى : ( يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته ، فاستهدني أهدكم )، ضال يعني : تائهاً، أي لا يعرف الحق ، ضال يعني : غاوياً لا يقبل الحق ، فالناس في الضلال قسمان :
قسم تائه : لا يعرف الحق . من النصارى ، فإن النصارى ضالون ، تائهون ، لا يعرفون الحق إلا بعد أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنهم عرفوا الحق لكنهم استكبروا عنه ، فلم يكن بينهم وبين اليهود فرق في أنهم علموا الحق ولم يتبعوه .
وقسم غاو : أي اختار الغي على الرشد بعد أن علم بالرشد، وهؤلاء مثل اليهود ، فإن اليهود عرفوا الحق ولكنهم لم يقبلوا ، بل ردوه .
ومن ذلك قوله تبارك وتعالى : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) (فصلت: 17) ، هداهم الله ، وبين لهم ، ودلهم ، لكنهم استحبوا العمى على الهدى ، واستحبوا الغي على الرشد ، فالناس كلهم ضالون إلا من هدى الله .
لكن ؛ ما هي هداية القسم الأول ، وهو الضال الذي لم يعرف الحق ؟ هداية القسم الأول : أن يبين الله لهم الحق ويدلهم عليه ، وهذه الهداية حق على الله ، حق على الله أوجبه الله على نفسه ، فكل الخلق قد هداهم الله بهذا المعنى ، يعني بمعنى البيان ، قال الله تعالى : ( إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) (الليل:12) ، وقال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ ) (البقرة:185) ، هدى للناس عموماً .
ولكن الهداية الثانية ، هي هداية التوفيق لقبول الحق ، هذه هي التي يختص الله بها من يشاء من عباده ، فالهداية هديتان هداية بيان الحق ، وهذه عامة لكل أحد ، وقد أوجبها الله على نفسه ، وبين لعباده الحق من الباطل ، وهداية توفيق لقبول الحق والعمل به ، تصديقاً للخبر وقياماً بالطلب ، وهذه خاصة يختص الله بها من يشاء من عباده .
والناس في هذا الباب ينقسمون إلى أقسام :
القسم الأول : من هدي الهدايتين ، أي علمه الله ووفقه للحق وقبوله .
والقسم الثاني : من حرم الهدايتين ، فليس عنده علم ، وليس له عبادة .
والقسم الثالث : من هدي بالدلالة والإرشاد، ولكنه لم يهد هداية التوفيق ، وهذا شر الأقسام ، والعياذ بالله .
والمهم أن الله ـ عز وجل ـ يقول : ( كلكم ضال )، أي كلكم لا يعرف الحق . أو كلكم لا يقبل الحق ، إلا من هديته ( فاستهدوني أهدكم ) يعني : اطلبوا الهداية مني ، فإذا طلبتموها ؛ فإنني أجيبكم وأهديكم إلى الحق ، ولهذا جاء الجواب في : ( استهدوني أهدكم ) ، وكأنه جواب شرط ، ليتحقق المشروط عند وجود الشرط ، ودليل هذا أن الفعل جزم ( استهدوني أهدكم ) ، فمتى طلبت الهداية من الله بصدق وافتقار إليه ، وإلحاح ، فإن الله يهديك.
ولكن أكثرنا معرض عن هذا ، فأكثرنا قائم بالعبادة ، لكن على العادة ، وعلى ما يفعل الناس ، كأننا لسنا مفتقرين إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في طلب الهداية ، فالذي يليق بنا : أن نسأل الله دائماً الهداية ، والإنسان في كل صلاة يقول : رب اغفر لي ، ارحمني واهدني بل إنه في كل صلاة : يقول على سبيل الركنية : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) (الفاتحة:7) ، ولكن أين القلوب الواعية ؟‍‍! إن أكثر المصلين يقرأ هذه الآية ، وتمر عليه مر الطيف ، أي مر الغيم الذي يجري بدون ماء ، وبدون شيء ، ولا ينتبه لها .
والذي يليق بنا أن نتنبه ، وأن نعلم أننا مفتقرون إلى الله ـ عز وجل ـ في الهداية ، سواء الهداية العلمية ، أو الهداية العملية ، أي هداية الإرشاد والدلالة ـ أو هداية التوفيق ، فلابد أن نسأل الله دائماً الهداية .
( فاستهدوني أهدكم ) وربما تشمل هذه الجملة الطريق الحسي ، كما تشمل الطريق المعنوي ، فالهداية للطريق المعنوي : هي الهداية إلى دين الله ، والهداية للطريق الحسي : كأن تكون في أرضه قد ضللت الطريق وضعت ، فمن تسأل ؟ فإنك تسأل الله الهداية ، ولهذا قال الله عن موسى صلى الله عليه وسلم : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص:22) ، أي السبيل المستوي الموصل للمقصود بدون تعب ، وقد جرب هذا ، فإن الإنسان إذا ضاع في البر فإنه يلجأ إلى الله تعالى ويقول : رب أهدني سواء السبيل، أو عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، ، وذلك لأننا محتاجون إلى الله في الهدايتين ؛ هداية الطريق الحسي ، كما أننا محتاجون إلى الله في الهداية إلى الطريق المعنوي . نسأل الله أن يهدينا جميعاً الهداية فيمن هدى .
ثم قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : ( يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته ، فإستطعموني أطعمكم ، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ) ، هاتان الجملتان الخاصتان بالجوع والعرى ذكرهما الله ـ عز وجل ـ بعد أن ذكر الهداية ، لأن في الهداية غذاء القلب بالعلم والإيمان ، والجوارح بالعمل الصالح .
أما الطعام والشراب والكسوة فهي غذاء البدن ، لأن البدن لا يستقيم إلا بالطعام ، ولا يستتر إلا بالكسوة ، ولهذا قال : ( يا عبادي ، لكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ) وصدق ربنا ـ عز وجل ـ كلنا جائع إلا من أطعمه الله ، ولولا أن الله تعالى يسر لنا ما يكون به طعامنا لهلكنا ، يقول الله تعالى مبيناً ذلك في سورة الواقعة : ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) .
والجواب : بل أنت ـ يا ربنا ـ الذي زرعته، لأن الله يقول : ( لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (الواقعة:65 ،67)، وتأمل كيف قال تعالى : (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً) ، ولم يقل : لو نشاء ما أنبتناه ، لأنه إذا نبت وشاهده الناس ؛ تعلقت به قلوبهم ، فإذا جعل حطاماً بعد أن تعلقت به القلوب ؛ صار ذلك أشد نكاية ، ولهذا قال تعالى (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً ) ، ولم يقل لو نشاء ما أنبتناه .
وقال تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ) (الواقعة:69) ، يعني : من السحاب ، ( أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) ؛ لأن الماء الذي نشرب من السحاب ، ينزله الله ـ عز وجل ـ على الأرض فيسلكه ينابيع ، يدخله في الأرض ، ويجري فيما تحت الأرض كالأنهار ، ثم يستخرج بالأدوات التي سخرها الله ـ عز وجل ـ في كل وقت بحسبه ، وهذا من حكمة الله ـ عز وجل ـ أن استودع الماء في بطون الأرض ، ولو بقى على ظهر الأرض لفسد ، وأفسد الهواء وأهلك المواشي ، بل وأهلك الآدميين من رائحته ونتنه ، ولكن الله ـ عز وجل ـ بحكمته ورحمته جعل هذه الأرض تشربه وتسلكه ينابيع فيها ، حتى تأتي حاجة الناس إليه ؛ فيحفرونه ، فيصلون إليه .
والذي أنزله هو الله ـ عز وجل ـ ، ولو اجتمع الناس كلهم على أن ينزلوا قطرة من السماء ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، ولكن الله ـ عز وجل ـ هو الذي ينزله بقدرته ورحمته ، إذن ، نحن لا نطمع شيئاً من طعام ، أو مأكول ،ولا من مشروب ؛ إلا بالله ـ عز وجل ـ ولهذا قال: ( كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم ).
واستطعام الله ـعز وجل ـ يكون بالقول وبالفعل ؛ بالقول : بأن تسأل الله ـ عز وجل ـ أن يطعمنا وأن يرزقنا ، وأما بالفعل ، فله جهتان :
الجهة الأولى : العمل الصالح ، فإن العمل الصالح سبب لكثرة الأرزاق وسعتها ، قال الله ـ عز وجل ـ: ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96)، وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) (المائدة:65،66) ، (مِنْ فَوْقِهِمْ ) : أي من ثمار الأشجار ، ( وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) : أي من ثمار الزروع ، فالمهم أن هذا من أسباب إطعام الله .
الجهة الثانية من جهة الاستطعام الفعلي : أن نحرث الأرض ، ونحفر الآبار، ونستخرج المياه ، ونزرع الحبوب ، ونغرس الأشجار ، وما أشبه ذلك .
فالاستطعام يكون بالقول ، ويكون بالفعل ، والفعل له جهتان : الجهة الأولى : العمل الصالح ، والجهة الثانية : الأسباب الحسية المادية كالحرث ، وحفر الآبار ، وما أشبه ذلك .
وقوله ـ جل ذكره ـ: ( فاستطعموني أطعمكم ) هذا جواب شرط مقدر ، أو جواب الأمر الذي كان في الشرط ، يعني أنك إذا استطعمت الله فإن الله يطعمك ، ولكن استطعام الله ـ عز وجل ـ يحتاج إلى أمر مهم ، وهو حسن الظن بالله ـ جل وعلا ـ ، أي أن تحسن الظن بربك أنك إذا استطعمته أطعمك ، أما أن تدعو الله وأنت غافل لاهٍ ، أو تفعل الأسباب وأنت معتمد على قوتك لا على ربك ؛ فإنك قد تكون مخذولاً ، والعياذ بالله ، لكن استطعم الله وحده وأخلص له وحده في ذلك .
( يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ) ، كلكم عار إلا من كسوته ، ذلك لأن الإنسان يخرج من بطن أمه ليس عليه ثياب ، بل يخرج مجرداً ؛ لا ثياب ، ولا شعر يكسوه ، كما يكون في الحيوان ، وهذا من حكمة الله ـ عز وجل .
فمن حكمته تعالى : أن جعلنا نخرج بادية أبشارنا ، بادية جلودنا ، حتى نعرف أننا محتاجون إلى كسوة تستر عورتنا حساً ، كما أننا محتاجون إلى عمل صالح يستر عورتنا معنى ، لأن التقوى لباس ، كما قال تعالى : (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) (الأعراف:26) ، فأنت انظر في نفسك تجد أنك محتاج إلى الكسوة الحسية لأنك عار ، كذلك أيضاً محتاج إلى الكسوة المعنوية ـ وهي العمل الصالح ـ حتى لا تكون عارياً ، ولهذا ذكر بعض العابرين للرؤيا أن الإنسان إذا رأى نفسه في المنام عارياً فإنه يحتاج إلى كثرة الاستغفار ، لأن هذا دليل على نقصان تقواه ، فإن التقوى لباس .
وعلى كل حال ؛ فنحن عراة إلا كسوة الله ـ عز وجل ـ وقد سخر الله لنا من الكسوة ما نكسو به أبداننا ـ ولله الحمد ـ من أصناف اللباس المتنوعة ، لا سيما في البلاد الغنية التي ابتلاها الله ـ عز وجل ـ بالمال ، فإن المال ـ في الحقيقة ـ فتنة يخشى على الأمة منه ، كما قال محمد صلى الله عليه وسلم : ( والله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا ، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم ؛ فتهلككم كما أهلكتهم )(93) فالمال ابتلاء وبلوى ، تحتاج إلى صبر على أداء ما يجب فيه ، وإلى شكر على ما يجب له .
وعلى كل حال ، أقول : إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ من علينا باللباس، ولولا أن الله يسره لنا ما تيسر ، ولو أنك نظرت في الخلق في وقتك الآن ، وتأملت لوجدت ـ كما سمعنا ـ من يبتون عراة ، ليس على أبدانهم ما يسترهم ، ربما يسترون السوءة بالأشجار ونحوها ، وليس عليهم ما يسترهم دون ذلك ، فمن الذي سترك ومن عليك ؟ هو الله ، ولهذا قال ـ عز وجل ـ ( يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ) .
ونقول في قوله : ( استكسوني أكسكم ) كما قلنا في قوله :( استطعموني أطعمكم )، يعني أن الاستكساء يكون بالقول ، ويكون بالفعل ؛ أما الذي بالقول : فبأن تسال الله ـ عز وجل ـ أن يكسوك ، وإذا سالت الله أن يكسو بدنك حسياً ، فسأل الله أن يكسو عورتك المعنوية بالتوفيق إلى طاعته .
وأما الاستكساء بالفعل فعلى وجهين :
الوجه الأول : بالأعمال الصالحة ، والوجه الثاني : بفعل الأسباب الحسية التي تكون بها الكسوة ؛ من إحداث المعامل ، والمصانع ، وغير ذلك .
وفي الربط بن الطعام والكسوة والهداية مناسبة ؛ لأن الطعام في الحقيقة كسوة البدن باطناً ، لأن الجوع والعطش معناه خلو المعدة من الطعام والشراب ، وهذا تعرٍّ لها ، والكسوة ستر البدن ظاهراً ، والهداية الستر المهم المقصود وهو ستر القلوب والنفوس من عيوب الذنوب .
ثم قال تعالى : ( يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ) هذا أيضاً من تمام نعمة الله على العبد ، إنه ـ جل وعلا ـ يعرض عليه أن يستغفر إلى الله ويتوب إليه، مع أنه يقول : ( إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً )، أي جميع الذنوب ، من الشرك بالله ، والكفر ، والكبائر ، والصغائر ، كلها يغفرها الله ، ولكن بعد أن يستغفر الإنسان ربه ، ولهذا قال : ( فاستغفروني أغفر لكم )، ،أي اطلبوا منى المغفرة حتى أغفر لكم .
ولكن طلب المغفرة ليس مجرد أن يقول الإنسان : اللهم اغفر لي ، بل لابد من توبة صادقة يتوب بها الإنسان إلى الله ـ عز وجل .
والتوبة الصادقة هي التي تجمع خمسة شروط :
الشرط الأول : أن يكون الإنسان مخلصاً فيها لله ـ عز وجل ـ لا يحمله على التوبة مراءاة الناس ، ولا تسميعهم، ولا أن يتقرب إليهم بشيء ، وإنما يقصد بالتوبة الرجوع إلى الله حقيقة ، والإخلاص شرط في كل عمل ، ومن جملة الأعمال الصالحة : التوبة إلى الله ـ عز وجل ـ، كما قال تعالى : ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31) .
الشرط الثاني : أن يندم الإنسان على ما وقع منه من الذنب ، يعني أن يحزن ، ويتأسف ، ويعرف أنه ارتكب خطأ حتى يندم عليه ، أما أن يكون ارتكاب الخطأ وعدمه عنده على حد سواء ؛ فهذه ليست بتوبة ، بل لابد من أن يندم بقلبه ندماً يتمنى أنه لم يقع منه هذا الذنب .
الشرط الثالث : أن يقلع عن الذنب فلا توبة مع الإصرار على الذنوب ، كما قال تعالى : ( وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران:135) ، أما أن بقول إنه تائب من الذنب وهو مصر عليه ، فإنه كاذب مستهزئ بالله ـ عز وجل ـ، فمثلاً لو قال : أتوب إلى الله من الغيبة ، ولكنه كلما جلس مجلساً اغتاب عباد الله ؛ فإنه كاذب في توبته ، ولو قال أتوب إلى الله من الربا ولكنه مصر عليه ؛ يبيع بالربا ويشتري بالربا ، فهو كاذب في توبته ، ولو قال : أتوب إلى الله من استماع الأغاني ، ولكنه مصر على ذلك ، فهو كاذب في توبته ، ولو قال : أتوب إلى الله من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في إعفاء اللحية ، وكان يحلقها ، وهو يقول أتوب إلى الله من حلقها : فإنه كاذب ، وهكذا جميع المعاصي إذا كان الإنسان مصراً عليها فإن دعواه التوبة كذب ، ولا تقبل توبته .
ومن التخلي عن الذنب والإقلاع عنه : أن يرد المظالم إلى أهلها إذا كانت المعصية في حقوق العباد ، فإن كانت في أخذ مال فليرد المال إلى من أخذه منه ، فإن كان قد مات فليرده إلى ورثته ، فإن تعذر عليه أن يعرف الورثة ، أو نسى الرجل ، أو ذهب الرجل إلى مكان لا يمكن العثور عليه ، مثل أن يكون أجنبياً ، فيرجع إلى بلده ، ولا يدري أين هو ، ففي هذه الحال يخرج ما عليه صدقة ينويها لصاحب المال الذي يطلبه .
وإذا كان الذنب في غيبة ، وكان المغتاب قد علم أن هذا الرجل قد اغتابه ، فلابد أن يذهب إلى المغتاب ويتحلل منه ، وينبغي للمغتاب إذا جاءه أخوه يعتذر إليه أن يقبل ، وأن يسامح عنه ، فإذا جاء إليك أخوك معتذراً مقراً بالذنب ، فاعف عنه واصفح ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:13) ، ولكن إذا لم يقبل أن يتسامح عن غيبته إلا بشيء من المال ؛ فأعطه من المال حتى يقتنع ويحللك .
كذلك إذا كانت المعصية مسابة بينك وبين أحد حتى ضربته مثلاً ، فإن التوبة من ذلك أن تذهب إليه وتستسمح منه ، وتقول : ها أنا أمامك اضربني كما ضربتك ، حتى يصفح عنك ، المهم أن من الإقلاع عن المعصية إذا كانت لآدمي أن تحلل منه ، سواء كانت مظلمة مال ، أو بدن ، أو عرض .
الشرط الرابع : أن يعزم على ألا يعود في المستقبل ، فإن تاب وأقلع عن الذنب، لكن في قلبه أنه حانت الفرصة عاد إلى ذنبه ، فإن ذلك لا يقبل منه ، فهذه توبة لا عب ، فلابد أن يعزم ، فإذا عزم قدر أنه نفسه سولت له بعد ذلك ، وفعل المعصية ، فإن ذلك لا ينقص التوبة السابقة ، لكن يحتاج إلى توبة جديدة من الذنب مرة ثانية .
الشرط الخامس : أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه ، فإن فات الأوان لم تنفع التوبة ، ويفوت الأوان إذا حضر الإنسان الموت . فإذا حضره الموت فلا توبة ولو تاب لم ينفعه ، لقوله تعالى : ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) (النساء:18) ، الآن لا فائدة فيها ، ولهذا لما أغرق فرعون ( قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:90) فقيل له (آلْآنَ ) ، يعني أتقول هذا الآن ( وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (يونس:91) ، فات الأوان ، ولهذا يجب على الإنسان أن يبادر بالتوبة ، لأنه لا يدري متى يفجؤه الموت ، كم من إنسان مات بغتة وفجأة ، فليتب إلى الله قبل أن يفوت الأوان .
أما الثاني الذي يفوت به أوان التوبة : إذا طلعت الشمس من مغربها ، فإن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخبر أن الشمس إذا غابت سجدت تحت عرش الرحمن ـ عز وجل ـ، واستأذنت الله ، فإن أذن لها استمرت في سيرها ، وإلا قيل : أرجعي من حيث جئت ، فترجع بإذن الله وأمره (94)، فتطلع على الناس من المغرب ، فحينئذ يؤمن جميع الناس ، يتوبون ويرجعون إلى الله ، ولكن ذلك لا ينفعهم ، قال الله تعالى : ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) يعني عند الموت ، ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ) يعني يوم القيامة للحساب ، ( أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ) يعني طلوع الشمس من مغربها ، ( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ) (الأنعام:158) .
هذه خمسة شروط للتوبة ، لا تقبل إلا بها، فعليك يا أخي أن تبادر بالتوبة إلى الله ، والرجوع إليه ، مادمت في زمن الإمهال ، قبل ألا يحصل لك ذلك ، واعلم أنك إذا تبت إلى الله توبة نصوحاً ؛ فإن الله يتوب عليك ، وربما يرفعك إلى منزلة أعلى من منزلتك ، أنظر إلى أبيك أدم ، حيث نهاه الله عن الأكل من الشجرة ، فعصى ربه بوسوسة الشيطان له ، قال الله تعالى : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (طـه:121 ،122) ، لما تاب نال الاجتباء . واجتباه الله ، وصار في منزلة أعلى من قبل أن يعصي ربه ، لأن المعصية أحدثت له خجلاً وحياء من الله ، وأنابه إليه ، ورجوعاً إليه ، فصارت حاله أعلى حالاً من قبل .
واعلم أن الله اشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل كان على راحلته وعليها طعامه وشرابه في أرض فلاة ، لا أحد فيها ، فأضاع الناقة ، وطلبها فلم يجدها ، فنان تحت شجرة ينتظر الموت ، فإذا بخطام ناقته متعلقاً بالشجرة ، قد جاء الله بها ، فأخذ بخطامها ، وقال من شدة الفرح : ( اللهم أنت عبدي ، وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح )(95) ، أراد أن يقول : اللهم أنت ربي ، وأنا عبدك ، ولكن أخطأ من شدة الفرح ، لأن الإنسان إذا أشتد فرحه لا يدري ما يقول ، كما أنه إذا اشتد غضبه لا يدري ما يقول ، فالله بتوبة عبده المؤمن أشد فرحاً من فرح هذا بناقته . نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم ، ويرزقنا الإنابة إليه .
وقوله جل ذكره : ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني )، يعني أنه ـ تبارك وتعالى ـ غني عن العباد ، ولا ينتفع بطاعتهم ولا تضره معصيتهم ، فإنه ـ عز وجل ـ قال في كتابه : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات:56،58) ، فالله ـ عز وجل ـ لا ينتفع بأحد ، ولا يتضرر بأحد لأنه غني عن الخلق ـ جل وعلا ـ ، وإنما خلق الخلق لحكمة أرادها ـ تبارك وتعالى ـ خلقهم لعبادته ، ثم إنه وعد الطائعين بالثواب ، وتوعد العاصين بالعقاب ، وحكمة منه ؛ لأته خلق الجنة والنار ، وقال : لكل منكما على ملؤها , فالنار لابد أن تكلأ ، والجنة لابد أن تملأ كما قال ـ عز وجل : ( وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود:119)، إذن فالله تعالى لن ينفعه طاعة الطائعين ، ولن تضره معصية العاصين ، ولن يبلغ أحد ضرره مهما كان .
ولهذا قال فيما بعد هذه الجملة : ( لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ، ما زاد في ملكي شيئاً ) . لو أن أول الخلق وأخرهم وأنسكم وجنهم كانوا متقين ، على أتقى قلب رجل واحد ، ما زاد ذلك في ملك الله من شيئاً ، لأن الملك ملكه ، لا للطائعين ولا للعاصين .
كذلك أيضاً يقول ـ جل وعلا ـ : ( يا عبادي ، لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ) لو كان العباد كلهم من جن وأنس ، وأولهم وأخرهم ، لو كانوا كلهم فجاراً وعلى أفجر قلب رجل ، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئاً ، قال الله تعالى : ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (الزمر:7) ، فالله ـ جل وعلا ـ لا ينقص ملكه بمعصية العصاة ، ولا يزيد بطاعة الطائعين ، هو ملك الله على كل حال .
ففي هذه الجمل الثلاث دليل على غنى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ،وكمال سلطانه ، وأنه لا يتضرر بأحد ولا ينتفع بأحد ؛ لأنه غني عن كل أحد .
ثم قال تعالى : ( يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ،وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ) ، هذه الجملة تدل على سعة ملك الله ـ عز وجل ـ وعلى كمال غناه ـ تبارك وتعالى ـ لو أن الأولين والآخرين ، والأنس والجن ، قاموا كلهم في صعيد واحد ، فسألوا الله ما تبلغه نفوسهم ، من أس مسألة وإن عظمت ، فأعطي الله كل إنسان ما سأل ، بل أعطي الله كل سائل ما سأل ، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئاً ؛ لأن الله جواد ، واجد ، عظيم الغني ، واسع العطاء ـ عز وجل .
( إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ) . أغمس المخيط في البحر، وانظر ؛ ماذا ينقص البحر ؟ إنه لا ينقص البحر شيئاً ، ولا يأخذ المخيط من البحر شيئاً يمكن أن ينسب إليه ، وذلك لأنه ـ عز وجل ـ واسع الغنى ، جواد ، ماجد ، كريم ـ سبحانه وتعالى .
( يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها ، لكم ، ثم أوفيكم إياها )، ومعنى ( إنما هي أعمالكم ) أي الشأن كله أن الإنسان بعمله ـ يحصى الله أعماله ، ثم إذا كان يوم القيامة وفاه إياها. ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (الزلزلة:7،8) ، ( فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) ؛ لأنه هو الذي أخطأ ، وهو الذي منع نفسه الخير ، أما إذا وجد خير فليحمد الله ؛ لأن الله تعالى هو الذي من عليه أولاً وأخراً ، من عليه أولاً بالعمل ، ثم من عليه ثانياً بالجزاء الوافر ( مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) (الأنعام:160) .
فهذا الحديث حديث عظيم ، تناوله العلماء بالشرح واستنباط الفوائد والأحكام منه ، وممن أفرد له مؤلفاً : شيخ الإسلام أبن تيمية ـ رحمه الله ـ، فإنه شرح هذا الحديث في كتاب مستقل ، فعلى الإنسان أن يتدبر هذا الحديث ويتأمله ، ولا سيما الجملة الأخيرة منه ، وهي أن الإنسان يجزى بعمله ، إن خير فخير ، وإن شراً فشر ، وهذا هو وجه وضع المؤلف لهذا الحديث في باب المجاهدة ، أن الإنسان ينبغي له أن يجاهد نفسه ، وأن يعمل الخير حتى يجد ما عند الله خيراً وأعظم أجراً . والله الموفق .


(82) أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة باب اتقوا النار ولو بشق تمره ، رقم (1415) ومسلم كتاب الزكاة ، باب الحمل أجرة يتصدق بها رقم (1018) .
(83) فلوه : الفلو هو المهر يفلي أي يفطم ، والجمع :أفلاء .
(84) أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب الصدقة من كسب طيباً ، رقم (1410) ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها ، رقم (1014) .
(85) أخرجه مسلم ، كتاب البر والصلة ، باب تحريم الظلم رقم (2577) .
(86) أخرجه البخاري ، كتاب المغازي ، باب حجة الوداع ، رقم (4406)،ومسلم، كتاب القسامة ، باب تحريم الدماء والأعراض والأموال ، رقم (1679) .
(87) أخرجه أبو داود ، كتاب الجنائز ، باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان ؟ رقم (3207) وأخرجه مالك في الموطأ بلاغاً كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الأختفاء (1/238) .
(88) أخرجه أبو داود ، كتاب الطهارة ، باب إذا خاف الجنب البرد أيتمم رقم (334) .
(89) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من غشنا فليس منا ) ، رقم (101،103) .
(90) أخرجه البخاري ، كتاب المظالم ، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض رقم (2452) ، ومسلم ، كتاب المساقاة ، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها رقم (1612) .
(91) أخرجه البخاري ، كتاب الشهادات ، باب من أقام البينة بعد اليمين ، رقم (2680)، ومسلم، كتاب الأقضية ، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة ، رقم (1713) .
(92) أخرجه أبو داود ، كتاب الأدب ، باب في الغيبة ، رقم (4878) .
(93) تقدم تجربجه .
(94) أخرجه البخاري ، كتاب بدء الخلق ، باب صفة الشمس والقمر ،رقم (3199) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان الذي لا يقبل فيه الإيمان ، رقم (159) .
(95) أخرجه مسلم ، كتاب التوبة ، باب في الحض على التوبة والفرح بها ، رقم : ( 2747) .

الموضوع التالي


قال الله تعالى : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) (فاطر:37)، قال ابن عباس والمحققون : معناه : أو لم نعمركم سنين سنة ؟ ويؤيده الحديث الذي سنذكره إن شاء الله تعالى . وقيل : معناه : ثماني عشرة سنة . وقيل : أربعين سنة . قاله الحسن والكلبي ومسروق ، ونقل عن ابن عباس أيضاً . ونقلوا : أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة : وقيل هو البلوغ . وقوله تعالى : ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) قال ابن عباس والجمهور : هو النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل الشيب ، وقاله عكرمة ، وابن عيينة ، وغيرهما .والله أعلم .

الموضوع السابق


110 ـ السادس عشر : عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري ـ رضي الله عنه ـ قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا : مراء وجاء رجل أخر فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغني عن صاع هذا ! فنزلت : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ ) (التوبة:79) . متفق عليه(82) . ( نحامل ) بضم النون ، وبالحاء المهملة : أي يحمل أحدنا على ظهره بالأجرة ، ويتصدق بها .