قال الله تعالى : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) (فاطر:37)، قال ابن عباس والمحققون : معناه : أو لم نعمركم سنين سنة ؟ ويؤيده الحديث الذي سنذكره إن شاء الله تعالى . وقيل : معناه : ثماني عشرة سنة . وقيل : أربعين سنة . قاله الحسن والكلبي ومسروق ، ونقل عن ابن عباس أيضاً . ونقلوا : أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة : وقيل هو البلوغ . وقوله تعالى : ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) قال ابن عباس والجمهور : هو النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل الشيب ، وقاله عكرمة ، وابن عيينة ، وغيرهما .والله أعلم .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : ( باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر ) . اعلم أن المدار على آخر العمر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها )(96) ، ولهذا كان من الدعاء المأثور : اللهم اجعل خير عمري آخره ,خير عملي خواتمه ، وصح عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام : أن ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا اله دخل الجنة )(97) .
فالذي ينبغي للإنسان كلما طال به العمر ؛ أن يكثر من الأعمال الصالحة ، كما أنه ينبغي للشباب أيضاً أن يكثر من الأعمال الصالحة ؛ لأن الإنسان لا يدري متى يموت ، قد يموت في شبابه ، وقد يؤخر موته ، لكن لا شك أن من تقدم به السن فهو إلى الموت أقرب من الشاب ؛ لأنه أنهى العمر .
ثم ساق المؤلف قول الله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) (ما) : نكرة موصوفة ؛ أي أو لم نعمركم عمراً يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ، وهذا العمر اختلف المفسرين فيه ، فقيل : هو ستون سنة ، وقيل ثمانية عشر سنة، وقيل أربعون سنة، وقيل البلوغ . والآية عامة، عمروا عمراً لهم فيه فرصة يتذكر فيه من يتذكر ، وهذا يختلف باختلاف الأحوال ، فقد يكون الإنسان يتذكر في أقل من ثمانية عشر سنة ، وقد لا يتذكر إلا بعد ذلك ، حسب ما يأتيه من النذر والآيات ، وما يكون حوله من البيئة الصالحة ، أو غير الصالحة .
المهم أنه يقال لهم توبيخاً : ( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ) وفي هذا دليل على أنه كلما طال بالإنسان العمر ، كان أولى بالتذكر .
وأما قوله تعالى : (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ) فالصحيح أن المراد بالنذير : النبي ، وهو اسم جنس يشمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويشمل الرسل الذين من قبله ، كلهم نذر ـ عليهم الصلاة والسلام .
فالواجب على الإنسان أن يحرص في آخر عمره على الإكثار من طاعة الله ، ولا سيما ما أوجب الله عليه ، وأن يكثر من الاستغفار والحمد ، كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر:13) . هذه السورة يقال أنها آخر سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها قصة عجيبة(98) .
نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة والعاقبة ، وأن يجعل خير أعمارنا أواخرها ، خير أعمالنا خواتيمها .



(96) أخرجه البخاري ، كتاب القدر ،رقم (6594) ، ومسلم ، كتاب القدر ، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، رقم (2643) .
(97) أخرجه أبو داود ، كتاب الجنائز ،باب في التلقين، رقم (3116) ، والحاكم في المستدرك (1/351) ،وصححه ، ووافقه الذهبي .

الموضوع السابق


111 ـ السابع عشر : عن سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعه بن يزيد ،عن أبي إدريس الخولاني ،عن أبي ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ، يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديته : فاستهدوني أهدكم ، يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته : فإستطعموني أطعمكم ، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم ، يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً : فاستغفروني أغفر لكم ، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم ، وأنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد ، واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) قال سعيد: كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. رواه مسلم(85)وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث .