113 ـ الثاني عن أبن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان عمر رضي الله عنه ـ يدخلني مع أشياع بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟! فقال عمر : إنه من حيث علمتم ! فدعاني ذات يوم فأدخلني معهم ، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم ، قال : ما تقولون في قول الله تعالى : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) (النصر:1) ؟ فقال بعضهم : امرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً . فقال لي : أكذلك تقول يا أبن عباس ؟ فقلت : لا . قال : فما تقول ؟ قلت هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) وذلك علامة أجلك : ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر:3) فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ ما أعلم منها إلا ما تقول . رواه البخاري(100) .
 
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنه ـ أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه -كان يدخله في أشياخ بدر وكان من سيره عمر وهديه ـ رضي الله عنه ـ أنه يشاور الناس ذوي الرأي فيما يشكل عليه ، كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) (آل عمران:159) ، والشورى الشرعية ليست تكوين مجلس للشورى حتى يكون مشاركاً في الحكم ، ولكن الشورى الشرعية أن ولي الأمر إذا أشكل عليه أمر من الأمور ، جمع الناس له من ذوي الرأي والأمانة من أجل أن يستشيرهم في القضية الواقعة ، فكان من هدي عمر ـ رضي الله عنه ـ ومن سنته المشكورة ، وسعيه الحميد أنه يشاور الناس ، يجمعهم ليستشيرهم في الأمور الشرعية ، والأمور السياسية ، وغير ذلك ، وكان يدخل مع أشياخ بدر ، أي مع كبار الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عبد الله بن عباس ، وكان صغير السن بالنسبة لهؤلاء ، فوجدوا في أنفسهم : كيف يدخ عبد الله بن عباس ـ رضي اله عنهما ـ مع أشياخ القوم ولهم أبناء مثله ولا يدخلهم .
فأراد عمرـ رضي الله عنه ـ أن يريهم مكانة عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ من العلم والذكاء والفطنة ، فجمعهم ودعاه ، فعرض عليهم هذه السورة : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3) ، فانقسموا إلى قسمين لما سألهم عنها ما تقولون فيها ؟ قسم سكت ، وقسم قال : إن الله أمرنا إذا جاء النصر والفتح ، أن نستغفر لذنوبنا ، وأن نحمده ونسبح بحمده ، ولكن عمر ـ رضي الله عنه ـ أراد أن يعرف ما مغزى هذه السورة ، ولم يرد أن يعرف معناها التركيبي من حيث الألفاظ والكلمات .
فسال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : ما تقول في هذه السورة ؟ قال : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني علامة قرب أجله ، أعطاه الله آية : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ) يعني فتح مكة ، فإن ذلك علامة أجلك ؛ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) فقال : ما أعلم فيها إلا ما علمت ، وظهر بذلك فضل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما .
وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان أن يفطن لمغزى الآيات الكريمة ، فإن المعنى الظاهر الذي يفهم من الكلمات والتركيبات ؛ هذا أمر قد يكون سهلاً ، لكن مغزى الآيات الذي أراده الله تعالى هو الذي قد يخفي على كثير من الناس ، ويحتاج إلى فهم يؤتيه الله تعالى من يشاء .
وقوله تبارك وتعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) ، أي سبح الله مصحوباً بالحمد ، فالباء هنا للمصاحبة ، وذلك لأنه إذا كان التسبيح مصحوباً بالحمد فإنه به يتحقق الكمال ، لأن الكمال لا يتحقق إلا بانتقاء العيوب ، وثبوت صفات الكمال ، فانتفاء العيوب مأخوذ من قوله: (فَسَبِّحْ) لأن التسبيح معناه التنزيه عن كل نقص وعيب ، وثبوت الكمالات مأخوذ من قوله: ( بِحَمْدِ ) لأن الحمد هو وصف المحمود بالصفات الكاملة ، وليس هو الثناء كما هو مشهور عند كثير من العلماء ، إذا قالوا : الحمد هو الثناء على الله بالجميل ، وبعضهم يقول : بالجميل الاختياري وما أشبه ذلك ، والدليل على ذلك الحديث القدسي ، حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله قال : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي تصفين ، يعني الفاتحة ، فإذا قال : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ، قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) قال : أثنى على عبدي )(101). ففرق بين الحمد والثناء .
والمهم أن الإنسان إذا جمع بين التسبيح والحمد ، فقد جمع بين إثبات الكمال لله ونفى النقائض عنه .
أما قوله : (وَاسْتَغْفِرْهُ ) ، فمعناه :أطلب منه المغفرة ، والمغفرة هي التجاوز عن الذنب والستر ، يعني: المغفرة تجمع بين الستر الذنب والتجاوز عنه ، وذلك من مدلول اشتقاقها ، فإنها مأخوذة من المغفر ؛ وهو ما يوضع على الرأس عند الحرب ليقي السهام ، فهو واق وساتر .
وأما قوله : ( إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) ، ففيه أن الله ـ عز وجل ـ موصوف بكثرة التوبة ، لقوله : ( تَوَّاباً ) وهي صيغة مبالغة ، لكثرة من يتوب ؛ فيتوب الله عليه .
والله ـ عز وجل ت تواب على عبده توبة سابقة لتوبته ، وتوبة لاحقه لها ، كما قال الله تعالى : ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (التوبة:118) ، فالتوبة السابقة : أن يوفق الله العبد للتوبة ، والتوبة اللاحقة : أن يقبل الله منه التوبة إذا تاب إليه .


وللتوبة شروط خمسة سبق ذكرها .
الأول : الإخلاص لله ـ عز وجل ـ في التوبة .
والثاني : الندم على ما حصل منه من الذنب .
والثالث : الإقلاع عنه في الحال .
والخامس : أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه .
وينبغي للإنسـان أن يكثر من هذا الذكر في الركوع والسـجود : ( سبحانك اللهم وبحمدك ، اللهم اغفر لي)(102). فإنه جامع بين الذكر والدعاء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقوله في ركوعه وسجوده بعد نزول هذه السورة . والله الموفق .




(100) أخرجه البخاري ، كتاب التفسير باب قوله : ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ... ) رقم (4970) .
(101) أخرجه مسلم ، كتاب الصلاة ، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ، رقم (395) .
(102) تقدم تخريجه.