117 ـ الأول : عن أبى ذر جندب بن جنادة ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله ، أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ) قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال : ( أنفسها عند أهلها ، وأكثرها ثمناً ) ، قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعاً ، أو تصنع لأخرق ). قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : تكف شرك عن الناس ؛ فإنها صدقة على نفسك ) متفق عليه(104) . ( الصانع ) بالصاد المهملة ، هذا هو المشهور ، وروي : (ضائعاً ) بالمعجمة أي ذا ضياع من فقر أو عيال ، ونحو ذلك ، و( الأخرق ) : الذي لا يتقن ما يحاول فعله .
 
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ في باب كثرة الخير ، فيما نقله عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ أنه سال النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الإيمان بالله والجهاد في سبيله ) والصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال من أجل أن يقوموا بها ، وليسوا كمن بعدهم ، فإن من بعدهم ربما يسألون عن أفضل الأعمال ، ولكن لا يعملون . أما الصحابة فإنهم يعملون ، فهذا ابن مسعود ـ رضي اله عنه ـ سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) . قلت ثم أي ؟ قال ( بر الوالدين ) . قلت ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله )(105) .
وهذا أيضاً أبو ذر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال ؛ فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الأعمال إيمان بالله ، وجهاد في سبيله ، ثم سأله عن الرقاب : أي الرقاب أفضل ؟ والمراد بالرقاب : المماليك ، يعني : ما هو الأفضل في إعتاق الرقاب ؟ فقال : ( أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً ) وأنفسها عند أهلها يعني : أحبها عن أهلها ، وأكثرها ثمناً : أي أغلاها ثمناً ، فيجتمع في هذه الرقبة النفاسة ، وكثرة الثمن ، ومثل هذا لا يبذله إلا الإنسان عنده قوة وإيمان .
ومثال ذلك : إذا كان عند رجل عبيد ومنهم واحد يحبه ؛ لأنه قائم بأعماله ، ولأنه خفيف النفس ، ونافع لسيده ، وهو كذلك أيضاً أغلى العبيد عنده ثمناً ، فإذا سألا أيما أفضل ؟ أعتق هذا ، أو ما بعده ، أو ما دونه ؟ قلنا أن تعتق هذا ، لأن هذا أنفس الرقاب عندك ، وأغلاها ثمناً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرقاب : أغلاها ثمناً ، أنفسها عند أهلها . وهذا كقوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) (آل عمران:92).
وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به ، اتباعاً لهذا الآية .
وجاء أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ حين نزلت هذه الآية : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله أنزل قوله : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) وأن أحب مالي إلى بيرحاء ، وبيرحاء بستان نظيف قريب من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتني إليه ، ويشرب من ماء فيه طيب عذب ، وهذا يكون غالباًً عند صاحبه ، فقال أبو طلحة : وإن أحب مالي إلي بيرحاء ، وإني أجعلها صدقة لله ورسوله ، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بخ . بخ ) . يعني يتعجب ويقول : ( مال رابح ، مال رابح ) ثم قال : ( أرى أن تجعلها في الأقربين )(106) ، فقسمها أبو طلحة في قرابته ، والشاهد أن الصحابة يتبادرون الخيرات .
ثم سأله أبو ذر : إن لم يجد ، يعني رقبة بهذا المعني ، أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمناً ؟ قال : ( تعين صانعاً أو تصنع لأخرق ) ، يعني : تصنع لإنسان معروفاً ، أو تعين أخرق ، ما يعرف ، فتساعده وتعينه ، فهذا أيضاً صدقة ومن الأعمال الصالحة .
قال : فإن لم أفعل ؟ قال : ( تكف شرك عن الناس ؛ فإنها صدقة منك على نفسك ) وهذا أدنى ما يكون ؛ أن يكف الإنسان شره عن غيره ، فيسلم الناس منه ، والله الموفق .


(104) أخرجه البخاري ، كتاب العتق ، باب أي الرقاب أفضل ، رقم (2518) ، ومسلم كتاب الإيمان ، باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال ، رقم (84) .
(105) أخرجه البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب فضل الصلاة لوقتها ، رقم (527) ، ومسلم كتاب الإيمان ، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال رقم (85) .
(106) أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب الزكاة على الأقارب ، رقم ( 1461) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين ... ، رقم ( 998) .