128 ـ الثاني عشر : عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم أتى الجمعة ، فاستمع , أنصت ، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ، ومن مس الحصا فقد لغا ) رواه مسلم(130).
 
في هذا الحديث دليل على أن الحضور إلى الجمعة بعد أن يحسن الإنسان وضوءه ، ثم يستمع إلى الخطيب وهو يخطب ، وينصت ،فإنه يغفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة ، وفضل ثلاثة أيام ، وهذا عمل يسير ليس فيه مشقة على الإنسان ؛ أن يتوضأ ويحضر إلى الجمعة ن وينصت لخطبة الإمام حتى يفرغ .
وقوله في هذا الحديث ( من توضأ ) لا يعارض ما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم )(131)فإن هذا الحديث الثاني فيه زيادة على الحديث الأول ، فيؤخذ بها . كما أنه أيضاً أصح منه . فإنه أخرجه الأئمة السبعة ، وهذا لم يخرجه إلا مسلم ، فيجب أولاً على من أراد حضور الجمعة أن يغتسل وجوباً ، فإن لم يفعل كان آثماً ، ولكن الجمعة تصح ، لأن هذا الغسل ليس عن جنابة حتى نقول أن الجمعة لا تصح ؛ بل هو غسل واجب كغيره من الوجبات ، إذا تركه الإنسان أثم وإن فعله أثيب .
ويدل على أنه ليس شرطاً لصحة الصلاة وإنما هو واجب ؛ أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ دخل ذات يوم وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يخطب الناس يوم الجمعة ، فقال أمير المؤمنين عمر : لماذا تأخرت ؟ فقال : والله يا أمير المؤمنين ما زدت على أن توضأت ثم أتيت ، يعني كأنه شغل ـ رضي الله عنه ـ ولم يتمكن من الحضور مبتكراً . فقال عمر ـ وهو على المنبر والناس يسمعون ـ قال الأمير المؤمنين عـثمان : والوضوء أيضاً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل)(132) يعني كيف تقتصر على الوضوء ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل ) فأمر من أتى الجمعة بالاغتسال ؟! ولكن لم يقل له اذهب فاغتسل ، لأنه لو ذهب واغتسل ، فربما تفوته الجمعة التي من أجلها وجب الغسل فيضيع الأصل إلى الفرع .
فالحاصل أن هذا الحديث الذي ساقه المؤلف ، وإن كان يدل على عدم وجوب الاغتسال ؛ لكن هناك أحاديث أخرى تدل على وجوب الاغتسال .
وفي هذا الحديث دليل على فضيلة الاستماع إلى الخطبة ، والإنصات ، والاستماع : أن يرعاها سمعه ، والإنصات : ألا يتكلم ، هذا الفرق بينهما . فيستمع الإنسان ويتابع بسمعه كلام الخطيب ، ولا يتكلم . وقد ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : أن ( من يتكلم يوم الجمعة والأمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفاراً )(133) والحمار أبلد الحيوانات ، يحمل أسفاراً ـ يعني كتباً ـ ولكنه لا ينتفع بالكتب إذا حملها ؟ ووجه الشبه بينهما أن هذا الذي حضر لم ينتفع بالخطبة لأنه تكلم ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( والذي يقول له : أنصت ـ يعني يسكته ـ فقد لغا )(134) ومعنى لغا أي فاته أجر الجمعة ، فالمسألة خطيرة .
ولهذا قال هنا : ( ومن مس الحصى فقد لغا ) وقد كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم يفرش المسجد بالحصبة ، وهي الحصى الصغار مثل العدس ، أو أكبر قليلاً ، أو أقل ، يفرش بها الفرش التي نفرشها الآن ، فكان بعض الناس ربما يعبث بالحصى ، يحركها بيده ، أو يمسحها بيده ، أو ما أشبه ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم ( من مس الحصى فقد لغا ) لأن مس الحصى يلهيه عن الاستماع للخطبة ، ومن لغا فلا جمعة له ، يعني يحرم ثواب الجمعة التي فضلت بها هذه الأمة على غيرها .
وإذا كان هذا في مس الحصى ، فكذلك أيضاً الذي يعبث بغير مس الحصى ، الذي يعبث بتحريك القلم ، أو الساعة ، أو المروحة التي يحركها ويلفها دون حاجة ، أو الذي يعبث بالسواك ، يريد أن يتسوك والإمام يخطب إلا لحاجة ، كأن يأتيه النوم أو النعاس ؛ فأخذ يتسوك ليطرد النعاس عنه ؛ فهذا لا بأس به ، لأنه لمصلحة استماع الخطبة ، وقد سئلنا عن الرجل يكتب ما يستمعه في الخطبة ؛ لأن بعض الناس ينسى فيقول : أنا كلما مرت على جملة مفيدة أكتبها ، هل يجوز أم لا ؟ فالظاهر أنه لا يجوز ، لأن هذا إذا اشتغل بالكتابة تلهى عما يأتي بعدها ، لأن الإنسان ليس له قلبان . فإذا كان يشتغل بالكتابة تلهى عما يقوله الخطيب أثناء كتابته لما سبق ، ولكن الحمد لله ، الآن قد جعل الله للناس ما يرحهم ، حيث جاءت هذه المسجلات . فبإمكانك أن تحضر المسجل تسجل الخطبة في راحة ، وتستمع إليها في بيتك ، أو في سيارتك ، على أي وضع كنت . والله الموفق .



(130) أخرجه مسلم ، كتاب الجمعة ، باب فضل من استمع وأنصت في الخطبة ، رقم (857) .
(131) أخرجه البخاري ، كتاب الجمعة ، باب فضل الغسل يوم الجمعة ، رقم ( 789)، ومسلم ، كتاب الجمعة ، باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال رقم (846).
(132) أخرجه البخاري ، كتاب الجمعة ، باب رقم (5) حديث رقم (88) ومسلم ،كتاب الجمعة رقم (845) .
(133) أخرجه أحمد في المسند (1/230) .
(134) أخرجه البخاري ، كتاب الجمعة ، باب الإنصات يوم الجمعة رقم (934)، ومسلم، كتاب الجمعة ، باب الإنصات يوم الجمعة في الخطبة رقم (851) .