قال الله تعالى : ( طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طـه:1،2) ، وقال تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (البقرة:185) .
 
لما ذكر المؤلف ـ رحمة الله ـ في باب السابق كثرة طرق الخير ، بين في هذا الباب أنه ينبغي للإنسان أن يقتصد في الطاعة ، فقال : ( باب اقتصاد في الطاعة ) والاقتصاد: هو أن يكون الإنسان وسطاً بين الغلو والتفريط ، لأن هذا هو المطلوب من الإنسان في جميع أحواله ؛ أن يكون دائراً بين الغلو والتفريط ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) .
وهكذا الطاعة ينبغي أن تقتصد فيها ، بل يجب عليك أن تقتصد فيها ؛ فلا تكلف نفسك ما لا تطيق ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبر الثلاثة الذين قال أحدهم : إني لا أتزوج النساء ، وقال الثاني : أصوم ولا أفطر ، وقال الثالث : أقوم ولا أنام ، خطب عليه الصلاة والسلام وقال : ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ، وإني أصلي وأنام ، وأصوم وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني )(167) فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن رغب عن سنته ، وكلف نفسه ما لا تطيق .
ثم استشهد المؤلف بقوله تعالى : ( طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) (طـه:1،2) ، ( طه ) هذه حرفان من حروف الهجاء ، أحدهما طاء والثاني هاء ، وليست اسماً من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كما زعمه بعضهم ، بل هي من الحروف الهجائية التي ابتدأ الله بها بعض السور الكريمة من كتابه العزيز ، وهي حروف ليس لها معنى ؛ لأن القرآن نزل باللغة العربية ، واللغة العربية لا تجعل للحروف الهجائية معنى ، بل لا يكون لها معنى إلا إذا ركبت وكانت كلمة .
ولكن لها مغزى عظيم ، هذا المغزى العظيم هو التحدي الظاهر لهؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام ، وهؤلاء المكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم عجزوا أن يأتوا بشيء مثل القرآن ؛ لا سورة ولا بعشرة سور ولا بآية ، ومع هذا فإن هذا القرآن الذي أعجزهم لم يأت بحروف غريبة لم يكونوا يعرفونها ، بل أتى بالحروف التي يركبون منها كلامهم .
ولهذا لا تكاد تجد سورة ابتدئت بهذه الحروف إلا وجدت بعدها ذكر القرآن ، في سورة البقرة : ( آ لم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ، وفي سورة آل عمران (آلم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) ، وفي سورة الأعراف (المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ) وفي سورة يونس ( آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) . وهكذا نجد بعد كل حروف هجائية في بداية السورة يأتي ذكر القرآن ، إشارة إلى أن هذا القرآن كان من هذه الحروف التي يتركب منها كلام العرب ، ومع ذلك أعجز العرب ، هذا هو الصحيح في المراد من هذه الحروف الهجائية .
وقوله عز وجل : (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) يعني ما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن لينال الشقاء به ، ولكن لينال السعادة والخير والفلاح في الدنيا والآخرة ، كما قال الله سبحانه تعالى في هذه السورة نفسها ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (طـه:123،127) ، (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) ولكن لتسعد في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا لما كانت الأمة الإسلامية أمة القرآن تتمسك به وتهتدي بهديه ، صارت لها الكرامة والعزة والرفعة على جميع الأمم ، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، ولما تخلفت عن العمل بهذا القرآن تخلف عنها من العزة والنصر والكرامة بقدر ما تخلفت به من العمل بهذا القرآن .
ثم ساق المؤلف آية أخرى ، وهي قول الله تعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة:185)، يعني أن الله يريد بنا فيما شرع لنا التيسير ، وهذه الآية نزلت في آيات الصيام حتى لا يظن الظان أنه ألزم الناس به للمشقة والتعب ، فبين الله تعالى أنه يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر ، ولهذا من سافر لم يجب عليه الصوم ، ويقضي من أيام أخر ، ومن مرض لم يجب عليه الصوم ، ويقضي من أيام أخر ، هذا من التيسير ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) .
ولهذا كان هذا الدين الإسلامي ـ ولله الحمد ـ دين السماحة واليسر والخير والسهولة ، أسأل الله أن يرزقني وإياكم التمسك به والوفاة عليه وملاقاة ربنا عليه .


(167) أخرجه البخاري ، كتاب النكاح ، باب ما يكره من التبتل والخصاء ، رقم (5063)، ومسلم ، كتاب النكاح ، باب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ،رقم (1401) .

الموضوع التالي


142ـ وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال : (من هذه ؟) قالت : هذه فلانة تذكر من صلاتها ، قال : (مه) ، عليكم بما تطيقون ، فو الله لا يمل الله حتى تملوا ) وكان أجب الذين إليه ما داوم صاحبه عليه . متفق عليه (168). (ومه) كلمة نهي وزجر ، ومعنى (لا يمل الله ) أي : لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ، وبعاملكم معاملة المال حتى تملوا فتتركوا ، فينبغي لكم أن تأخذوا مل تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم .