142ـ وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة قال : (من هذه ؟) قالت : هذه فلانة تذكر من صلاتها ، قال : (مه) ، عليكم بما تطيقون ، فو الله لا يمل الله حتى تملوا ) وكان أجب الذين إليه ما داوم صاحبه عليه . متفق عليه (168). (ومه) كلمة نهي وزجر ، ومعنى (لا يمل الله ) أي : لا يقطع ثوابه عنكم وجزاء أعمالكم ، وبعاملكم معاملة المال حتى تملوا فتتركوا ، فينبغي لكم أن تأخذوا مل تطيقون الدوام عليه ليدوم ثوابه لكم وفضله عليكم .
 

ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ في باب الاقتصاد في الطاعة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة ، فقال : (من هذه ؟) قالت : فلانة ، وذكرت من صلاتها ، يعني أنها تصلي كثيراً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مه) ومه : يعني أمر بالكف ، فهي عند النحويين اسم فعل بمعنى اكفف، وصه : بمعنى أسكت .
فالمعنى أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر هذه المرأة أن تكف عن عملها الكثير ، الذي قد يشق عليها وتعجز عنه في المستقبل فلا نديمه، ثم أمر النبي - عليه الصلاة والسلام- أن نأخذ من العمل بما نطيق ، فقال: ( عليكم بما تطيقون ) يعني لا تكلفوا أنفسكم وتجهدوها ، فإن الإنسان إذا أجهد نفسه ، وكلف نفسه ، ملت وكلت ، ثم انحسرت وانقطعت .
وذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب الدين إليه أدومه ، أي : ما دام عليه صاحبه ، يعني أن يعمل وأن قل إذا داومت عليه كان أحسن لك ، لأنك تفعل العمل براحة ، وتتركه وأنت ترغب فيه ، لا تتركه وأنت تمل منه .
ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ : فو الله لا يمل الله حتى تملوا ) يعني أن الله عز وجل يعطيكم من الثواب بقدر عملكم ، مهما داومتم من العمل فإن الله تعالى يثيبكم عليه .
وهذا الملل الذي يفهم من ظاهر الحديث أن الله يتصف به ، ليس كمللنا نحن ، لأن مللنا نحن ملل تعب وكسل ، وأما ملل الله عز وجل فإنه صفة يختص به جل وعلا ، والله سبحانه وتعالى لا يلحقه تعب ولا يلحقه كسل ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) (قّ:38) هذه السماوات العظيمة والأرض وما بينهما خلقها الله تعالى في ستة أيام : الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ، قال (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ) يعني ما تعبنا بخلقها في هذه المدة الوجيزة مع عظمها .
ففي هذا الحديث فوائد ، منها : أن الإنسان ينبغي له إذا رأى عند أهله أحد أن يسأل : من هو ؟ لأنه قد يكون هذا الداخل على الأهل ممن لا يرغب في دخوله ، فإن من النساء من تأتي إلى أهل البيت تحدثهم بأحاديث يأثمون بها من الغيبة وغيرها ، وربما تدخل امرأة ـ بحسن نية أو غير حسن نية ـ تسال مثلاً عن البيت ؛ عما يفعل الزوج ، وعما يفعل الابن ، عما يفعل أخوك ، ثم إذا ذكرت ما يفعل قالت : هذا يسير ، كيف ما يعطيكم إلا كذا ؟ كيف ما يعطيكم إلا هذه الثياب ؟ إلا هذا الطعام ؟ وما أشبه ذلك ، حتى تفسد المرأة على زوجها ، فلذلك ينبغي للإنسان إذا وجد عند أهله أحد أن يسأل عنهم : من هؤلاء ؟ كما سأل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عائشة عن المرأة التي عندها .
وفيه أيضاً أنه ينبغي للإنسان أن لا يجهد نفسه بالطاعة وكثرة العمل ، فإنه إذا فعل هذا مل ، ثم ترك ، وكونه يبقى على العمل ولو قليلاً مستمراً عليه أفضل ، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت ، قال ذلك رغبة في الخير ، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام ، فقال له : ( أنت الذي قلت ذلك ؟ ) قال : نعم يا رسول الله ، قال : ( إنك لا تطيق ذلك ) ثم أمره أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فقال: إني لا أطيق أكثر من ذلك، فأمره أن يصوم يوماً ويفطر يومين ، فقال : أطيق أكثر من ذلك ، فقال : ( صم يوماً وأفطر يوماً ) قال : إني أطيق أكثر من ذلك ، قال : ( لا أكثر من ذلك هذا صيام داود ) .
وكبر عبد الله بن عمرو وصار يشق عليه أن يصوم يوماً ويترك يوماً ، فقال : ليتني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم (169)، ثم صار يصوم خمسة عشراً يوماً سرداً ، ويفطر خمسة عشر يوماً سرداً .
ففي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يعمل العـبادة على وجه مقتصد ، لا غلو ولا تفريط ، حتى يتمكن من الاستمرار عليها ، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل . والله الموفق .


(168) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب أحب الدين إلى الله أدومه رقم ( 43) ،ومسلم، كتاب صلاة المسافرين ، باب أمر من نعس في صلاته، رقم (785) .
(169) أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب حق الأهل في الصوم ، رقم (1976)، وكتاب الأنبياء ، باب قول تعالى : ( وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) رقم (3418) ،ومسلم ، كتاب الصيام ، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ... رقم (1159) .

الموضوع التالي


143 ـ وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر ؟! قال أحدهم : أما أنا فاصلي الليل أبداً ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) متفق عليه(170).