144 ـ وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثاً . رواه مسلم(173) . المتنطعون : المتعمقون المتشددون في غير مواضع التشديد .
 

قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما تقله عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون . هلك المتنطعون ) الهلاك : ضد البقاء ، يعني أنهم تلفوا وخسروا ، والمتنطعون : هم المتشددون في أمورهم الدينية والدنيوية ، ولهذا جاء في الحديث : ( لا تشددوا فيشدد الله عليكم )(174) .
وانظر إلى قصة بني إسرائيل حين قتلوا قتيلاً فادرؤوا فيه وتنازعوا حتى كادت الفتنة أن تثور بينهم ، فقال لهم موسى عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (البقرة:67) ، يعني وتأخذوا جزءاً منها فتضربوا به القتيل ، فيخبركم من الذي قتله ، فقالوا له (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً ) يعني : تقول لنا اذبحوا بقرة واضربوا ببعضها القتيل ثم يخبركم عن قتله ؟ ولو أنهم استسلموا وسلموا لأمر الله وذبحوا أي بقرة كانت لحصل مقصودهم ، لكنهم تعنتوا فهلكوا ، قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ ثم قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ؟ ثم قالوا : ادع لنا ربك يبين لنا ما هي وما عملها ؟ وبعد أن شدد عليهم ذبحوها وما كادوا يفعلون .
كذلك أيضاً من التشديد في العبادة ، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه ، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك . ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى ولا سيما في رمضان حي يكون الله قد اباح له الفطر وهو مريض ويحتاج إلي الأكل والشرب، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائماً فهذا أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث : هلك المتنطعون .
ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد ؛ حيث تجدهم إذا مرت بهم الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها ، ويسألون أسئلة ما كلفوا بها ، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم ، فتجد الواحد ينقب عن أشياء ليست من الأمور التي كلف بها تنطعاً وتشقاً ، فنحن نقول لهؤلاء : إن كان يسعكم ما وسع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فأمسكوا ، وإن لم يسعكم فلا وسع الله عليكم ، وثقوا بأنكم ستقعون في شدة وفي حرج وفي قلق .
مثال ذلك : يقول بعض الناس : إن الله عز وجل له أصابع ، كما جاء في الحديث الصحيح : ( إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء )(175) فيأتي هذا المتنطع فيبحث : هذه الأصابع كم عددها ؟ وهل لها أنامل ؟ وكم أناملها ؟ وما أشبه ذلك .
كذلك مثلاً : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى الثلث الآخر )(176) ، يقول : كيف ينزل ؟ كيف ينزل في ثلث الليل وثلث الليل يدور على الأرض كلها ؟ معنى هذا أنه نازل دائماً ، وما أشبه ذلك الكلام الذي لا يؤجرون عليه، ولا يحمدون عليه، بل هم إلى الإثم أقرب منهم إلى السلامة وهم إلى الذم أقرب منهم إلى المدح .
هذه المسائل التي يكلف بها الإنسان ، وهي من مسائل الغيب ، ولم يسال عنها من هو خير منه ، وأحرص منه على معرفة الله بأسمائه وصفاته ، يجب عليه أن يمسك عنها ، وأن يقول : سمعنا وأطعنا وصدقنا وآمنا ، أما أن يبحث أشياء هي مسائل الغيب ، فإن هذا لا شك أنه من التنطع .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض الطلبة من إدخال الاحتمالات العقلية في الدلائل اللفظية ؛ فتجده يقول : يحتمل كذا ويحتمل كذا ، حتى تضيع فائدة النص ، وحتى يبقى النص كله مرجوجاً لا يستفاد منه . هذا غلط . خذ بظاهر النصوص ودع عنك هذه الاحتمالات العقلية ، فإننا لو سلطنا الاحتمالات العقلية على الأدلة اللفظية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما بقى لنا حديث واحد أو آية واحدة يستدل بها الإنسان ، ولأورد عليها كل شيء ، وقد تكون هذه الأمور العقلية وهميات وخيالات من الشيطان ، يلقيها في قلب الإنسان حتى يزعزع عقيدته وإيمانه والعياذ بالله .
ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المتشددين في الوضوء ، حيث تجده مثلاً يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر ، وهو في عافية من ذلك . يذكر أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان يتوضأ ، فإذا وجهه الأرض التي تحته ليس فيها إلا نقط من الماء ، من قلة ما يستعمل من الماء ، وبعض الناس تجده يشدد في الماء فيشدد الله عليه ، فإنه إذا استرسل مع هذه الوساوس ما كفاه أربع ولا خمس ولا ست ولا أكثر من ذلك ، فيسترسل مع الشيطان حتى يخرج عن طوره ، حتى يقول : هل أحد عاقل يتصرف هذا التصرف .
أيضاً في الاغتسال من الجنابة ، تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال ، في إدخال الماء في أذنيه ، وفي إدخال الماء في منخريه ، وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( هلك المتنطعون . هلك المتنطعون . هلك المتنطعون ) . فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث . والله الموفق .


(173) أخرجه مسلم ، كتاب العلم ، باب هلك المتنطعون ،رقم (2670) .
(174) أخرجه أبو داود ، كتاب الأدب ، باب في الحسد ، رقم (4904) ،وأبو يعلي (6/365) .
(175) أخرجه مسلم ، كتاب القدر ، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء، رقم (2654) .
(176) أخرجه البخاري ، كتاب التوحيد ، باب قوله تعالى : ( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) ، رقم (7494)، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين ، باب الترغيب في الدعاء ، رقم (758) .

الموضوع التالي


145 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الذين يسر ، ولن يشاد الدين إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا ابشروا ، استعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة ) رواه البخاري (177). وفي رواية له : ( سددوا وقاربوا اغدوا وروحوا ، وشيءٍ من الدلجة القصد القَصد تبلغوا ) (178). قوله : ( الذين ) هو مرفوع على ما لم يسم فاعله . وروي منصوباً ، وروي : ( لن يشاد الدين أحد ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إلا غلبه ) أي: غلبه الدين ، وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين لكثرة طرقه . (والغدوة ) سير أول النهار ، ( والروحة ): آخر النهار . ( والدلجة ) :آخر الليل . وهذا استعارة وتمثيل ، ومعناه: استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم ، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون ، وتبلغون مقصود كم ، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابته في غيرها، فيصل المقصود بغير تعب . والله أعلم .

الموضوع السابق


143 ـ وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر ؟! قال أحدهم : أما أنا فاصلي الليل أبداً ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) متفق عليه(170).