152ـ وعن أبن عباس رضي الله عنهما قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم ، فسال عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ولا يصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليتكلم وليستظل وليقعد، وليتم صومه ) رواه البخاري (189).
 
ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ في باب الاقتصاد في العبادة هذا الحديث ؛ الذي نذر فيه رجل يقال له أبو إسرائيل ؛ أن يقوم في الشمس ولا يقعد ، وأن يصمت ولا يتكلم ، وأن يصوم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فرأى هذا الرجل قائماً في الشمس ، فسأل عنه فأخبر عن قصته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ) .
وهذا النذر كان قد تضمن أشياء محبوبة إلى الله عز وجل ، وأشياء غير محبوبة ، أما المحبوبة إلى الله فهي الصوم ؛ لأن الصوم عبادة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه )(190) ، وأما وقوفه قائماً في الشمس من غير أن يستظل ، وكونه لا يتكلم ؛ فهذا غير محبوب إلى الله عز وجل ، فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل أن يترك ما نذر .
وليعلم أن النذر اصله مكروه ، بل قال بعض العلماء : أنه محرم ، وأنه لا يجوز للإنسان أن ينذر ؛ لأن الإنسان إذا نذر كلف نفسه ما لم يكلفه الله ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال ( إنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل )(191) ، ولكن إذا قدر أن الإنسان نذر فالنذر أقسام: قسم حكمه حكم اليمين ، وقسم آخر نذر معصية ، وقسم ثالث نذر طاعة .
أما الذي حكمه حكم اليمين ، فهو الذي قصد الإنسان به تأكيد الشيء ؛ نفياً أو إثباتاً أو تصديقاً أو تأكيداً ، ومثاله : إذا قيل للرجل أخبرتنا بكذا وكذا ولكنك لم تصدق ، فقال : إن كنت كاذباً فلله على نذر أن أصوم سنة ، فلا شك أن غرضه من ذلك أن يؤكد قوله ليصدقه الناس ، هذا حكمه حكم اليمين ؛ لأنه قصد بذلك تأكيد ما قال ، وكذلك أيضاً إذا قصد الحث ؛ مثل أن يقول : إن لم افعل كذا فلله على نذر أن أصوم سنة ، فهذا أيضاً قصد الحث وأن يفعل ما ذكر ، حكمه حكم اليمين أيضاً ، ودليل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى )(192) ، وهذا نوى اليمين فله ما نوى .
أما القسم الثاني : فهو المحرم فالمحرم إذا نذره الإنسان يحرم عليه الوفاء به ، مثل أن يقول : لله عليه نذر أن يشرب الخمر ، فهذا نذر محرم، فلا يحل له أن يشرب الخمر ، ولكن عليه كفارة يمين على القول الراجح ، وإن كان بعض العلماء قال : إنه لا شيء عليه ، لأنه غير منعقد ، ولكن الصحيح أنه نذر منعقد ، ولكن لا يجوز الوفاء به ، ومثل ذلك أن تقول المرأة : لله عليها نذر أن تصوم أيام حيضها ؛ فهذا حرام ، ولا يجوز أن تصوم أيام الحيض ، وعليها كفارة يمين .
أما القسم الثالث : فهو نذر الطاعة ، أن ينذر الإنسان نذر طاعة ، مثل أن يقول : لله على نذر أن أصوم الأيام البيض ؛ وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر ، فيلزمه أن يوفي بنذره ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) ، أو يقول : لله علي نذر أن اصلي ركعتين في الضحى ، فيلزمه أن يوفي بنذره لأنه طاعة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من نذر أن يطيع الله فليطعه ) .
فإن اشتمل نذره على طاعة وغير طاعة ؛ وجب أن يوفي بالطاعة ، وغير الطاعة لا يوفي ، ويكفر كفارة يمين ، مثل قصة الرجل ، حيث نذر أن يقوم في الشمس ، وألا يستظل ، وألا يتكلم ، وأن يصوم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم لأنه طاعة ، ولكنه قال في القيام، وعدم الاستظلال ، وعدم الكلام ؛ مروه فليستظل وليقعد وليتكلم ، وكثير من الناس اليوم إذا استبعد الأمر أو أشفق عليه ينذر ؛ فمثلاً : إذا مرض له إنسان ؛ قال : لله علي نذر إن شفى الله مريضي لأفعلن كذا وكذا ، فهذا منهي عنه ، إما نهي كراهة أو نهي تحريم ، اسأل الله العافية لمريضك بدون نذر ، لكن لو فرضنا أنه نذر ؛ إن شفي الله مريضه أن يفعل كذا وكذا فشفاه الله ، وجب عليه أن يوفي بالنذر . والله الموفق .



(189) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان والنذور ، باب النذر فيما لا يملك .. رقم (6704) .
(190) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان والنذر ، باب النذر في الطاعة ... رقم )6696) .
(191) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان والنذور ، باب الوفاء بالنذر رقم ( 6692 ،6693 ،6694) ومسلم ، كتاب النذر ، باب النهي عن النذر وأنه يرد شيئاً ، رقم ( 1639، 1640) .
(192) أخرجه البخاري ، كتاب بدء الوحي ، باب كيف كان بدء الوحي ... رقم (1) ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب قوله : إنما الأعمال بالنيات رقم (1907) .

الموضوع التالي


قال الله تعالى : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) (الحديد:16) ، وقال تعالى : ( وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) (الحديد:27) ، وقال تعالى : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً ) (النحل:92) ، وقال تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) . وأما الأحاديث ؛ فمنها حديث عائشة : وكان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه وقد سبق في الباب قبله .

الموضوع السابق


151 ـ وعن أبي ربعي حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب ، أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقيني أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت نافق حنظلة ! قال : سبحان الله ! ما تقول ؟ قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً . قال أبو بكر رضي الله عنه : فو الله لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وما ذاك ؟ ) قلت : يا رسول الله ، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسبنا كثيراً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظة ساعة وساعة ) ثلاث مرات ،رواه مسلم (188). قوله : ربعي ) بكسر الراء . ( والأسيدي ) بضم الهمزة وفتح السين وبعدها ياء مكسورة مشددة وقوله : (عافسنا ) هو بالعين والسين المهملتين ، أي عالجنا ولا عبنا . ( والضيعات ) : المعايش .