قال الله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (الحشر:7) وقال تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (النجم:3،4) وقال تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )(آل عمران:31) ، وقال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : باب الأمر بالمحافظة على السنة وآدابها ، السنة : يراد بها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي طريقته التي كان عليها في عباداته وأخلاقه ومعاملاته ، فهي أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وإقراراته ، هذه هي السنة . ويطلق الفقهاء السنة على العمل الذي يترجح فعله على تركه ، وهو الذي يثاب على فعله ، ولا يعاقب على تركه .
ولا شك أن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعثه الله ـ تعالى ـ بالهدى ودين الحق . والهدى : هو العلم النافع ودين الحق : هو العمل الصالح ، فلابد من علم ، ولابد من عمل ، ولا يمكن أن يحافظ الإنسان على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن يعلمها ، وعليه فيكون الأمر بالمحافظة على السنة أمراً بالعلم وطلب العلم .
وطلب العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام : فرض عين ، وفرض كفاية ، وسنة .
أما فرض العين : فهو علم ما تتوقف العبادة عليه . يعني العلم الذي لا يسع المسلم جهله ، مثل العلم بالوضوء ، بالصلاة ، بالزكاة ، بالصيام ، بالحج ، وما أشبه ذلك ، فالذي لا يسع المسلم جهله ؛ فإن تعلمه يكون فرض عين . ولهذا نوجب على هذا الشخص أن يتعلم أحكام الزكاة لأنه ذو مال ، ولا نوجب على الآخر أن يتعلم أحكام الزكاة لأنه ليس ذا مال .
كذلك الحج : نوجب على هذا أن يتعلم أحكام الحج لأنه سوف يحج ، ولا نوجب على الآخر أن يتعلمها ؛ لأنه ليس بحاج .
أما فرض كفاية : فهو العلم الذي تحفظ به الشريعة ، يعني هو العلم الذي لو ترك لضاعت الشريعة ، فهذا فرض كفاية ، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين ، فإذا قدر أن واحداً في البلد قد قام بالواجب في هذا الأمر وتعلم ، وصار يفتي ويدرس ، ويعلم الناس ، صار طلب العلم في حق غيره سنة وهو القسم الثالث .
إذن طالب العلم يدور أجره بين أجر السنة ، وأجر فرض الكفاية ، وأجر فرض العين . والمهم أنه لا يمكن أن نحافظ على السنة وآدابها إلا بعد معرفة السنة وآدابها .
ثم ذكر المؤلف من كتاب الله عز وجل ، منها قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) (آل عمران:31) ، هذه الآية يسمها بعض العلماء آية المحنة ، أي آية الامتحان ، لأن الله ـ تعالى ـ امتحن قوماً ادعوا أنهم يحبون الله ، قالوا : نحن نحب الله ، دعوى يسيرة ، لكت على المدعي البينة ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) فمن ادعى محبة الله ، وهو لا يتبع الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فليس صادقاً . بل هو كاذب ، فعلامة محبة الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن تتبع رسوله صلى الله عليه وسلم .
واعلم أنه بقدر تخلفك عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون نقص محبتك لله ، وما نتيجة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ جاء ذلك في الآية نفسها (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وهذه الثمرة ؛ أن الله يحبك ، لا أن تدعي محبة الله . فإذا أحبك الله ؛ فإنه لن يحبك إلا إذا أتيت ما يحب ، فليس الشان أن يقول القائل : أنا أحب الله ، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون الله عز وجل ـ يحبه . نسأل الله عز وجل ـ أن يجعلنا وإياكم من أحبابه . وهذا هو الشأن .
وإذا أحب الله الشخص ، يسر الله له أمور دينه ودنياه ، ورد في الحديث : ( أن الله إذا أحب شخصاً نادى جبريل : أني أحب فلاناً فأحبه ، فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماوات : أن الله يحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهل السماوات ، ثم يوضع له القبول في الأرض )(199) فيحبه أهل الأرض ، ويقبلونه ، ويكون إماماً لهم ، إذاً محبة الله هي الغاية ، ولكنها غاية لمن كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم غاية كمن كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فمن اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم أحبه الله .
وذكر المؤلف قوله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(الحشر:7) وهذه الآية في سياق قسمة الفيء ؛ يعني المال الذي يؤخذ من الكفار . يقول الله عز وجل : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ) يعني ما أعطاكم من المال فخذوه ولا تردوه ، (وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) أي لا تأخذوه .
ولهذا بعث الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على الصدقة في سنة من السنوات ، فلما رجع أعطاه فقال : يا رسول الله تصدق به على من هو أفقر مني ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما جاءك من هذا المال ، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ، وما لا فلا تتبعه نفسك )(200) فما أعطانا الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا نأخذه ، وما نهانا عنه فإننا لا نأخذه .
وهذه الآية ـ وإن كانت في سياق قسمة الفيء ـ فإنها كذلك بالنسبة للأحكام الشرعية ، فما أحله النبي صلى الله عليه وسلم لنا فإننا نقبله ونعمل به على أنه حلال ، وما نهانا عنه فإننا ننتهي عنه ، ونتركه ولا نتعرض له ، فهي وإن كانت في سياق الفيء فهي عامة تشمل هذا وهذا .
ثم ذكر أيضاً قوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) يعني بالأسوة : القدوة . والحسنة : ضد السيئة ، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو أسوتنا وقدوتنا ، ولنا فيه أسوة حسنة ، وكل شيء تتأسى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه خير وحسن .
ويشمل قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) معنيين :
المعنى الأول : هو أن كل ما يفعله فهو حسن ، فالتأسي به حسن .
الثاني : أننا مأمورون بأن نتأسى به أسوة حسنة ، لا نزيد على ما شرع ولا ننقص عنه ، لأن الزيادة أو النقص ضد الحسن ، ولكننا مأمورون بأن نتأسى به وكل شيء نتأسى به فيه فإنه حسن .
وأخذ العلماء من هذه الآية أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم حجة يحتج بها ويقتدى به فيها ، إلا ما قام الدليل على أنه خاص به ، فما قام الدليل على أنه خاص به فهو مختص به ، مثل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ ) إلى أن قال ( وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (الأحزاب:50) ، فما كان من خصائصه فهو من خصائصه .
ومن ذلك أيضاً : الوصال في الصوم ، أي أن يسدد الإنسان صوم يومين بلا فطر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، قالوا : يا رسول الله ، إنك تواصل ، يعني فكيف تنهانا ؟ فقال : ( إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقي )(201) وفي لفظ : ( إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )(202) يعني يطعمه الله ويسقيه بما يمده به من ذكره ، وتعلق قلبه به حتى ينسى الأكل والشرب ولا يطلبه . ونحن نعلم الآن أن الرجل لو شغل بأمر من أمور الدنيا نسى الأكل والشرب حتى أن الشعراء يتمثلون بهذا بقولهم :

لـهـا أحــاديـث مــن ذكـــراك تـشــغـلـهـا
عـــن الشــراب وتـلــهـيـهــا عـــن الــزاد

يعني أن أحاديثها بك إذا قامت تتحدث ؛ ألهاها ذلك عن الشراب وعن الزاد .
فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لقوة تعلقه بربه ، إذا قام من الليل يتهجد ، فإن الله ـ تعالى ـ يعطيه قوة بما يحصل له من الذكر ، تكفيه عن الأكل والشرب . أما نحن فلسنا كهيئته ، ولهذا منع الوصال ، وبين أنه من خصائصه صلى الله عليه وسلم .


(199) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب ، باب المقة من الله تعالى،رقم (6040) ، ومسلم كتاب البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبداً حببه عباده رقم (2637) .
(200) أخرجه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب من أعطاه الله شيئاً من غير مسألة،رقم (1473) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ...رقم ( 1045) .
(201) أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب الوصال ، رقم (1962)، ومسلم ، كتاب الصيام ، باب النهي عن الوصال في الصوم ، رقم (1103) .
(202) أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب التنكل لمن أكثر الوصال، رقم (1965) ،ومسلم، كتاب الصيام ، باب النهي عن الوصال في الصوم ،رقم (1103) .