157ـ الثاني : عن أبي نجيح العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا . قال : ( أوصيكم بتقوى الله . والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي(209)، وقال حديث حسن صحيح . ( النواجذ ) بالذال المعجمة : الأنياب ، وقيل الأضراس .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله في باب الأمور بالمحافظة على السنة وآدابها ، عن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منا القلوب وذرفت منها العيون ) وهذا من دأبه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعظ الناس بالمواعظ أحياناً على وجهٍ راتب ، كما في يوم الجمعة ، خطب يوم الجمعة ، وخطب العيدين . وأحياناً على وجهٍ عارض ، إذا وجد سبب يقضي الموعظة ، قام ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوعظ الناس .
ومن ذلك موعظته صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الكسوف ، فإنه خطب ووعظ موعظة عظيمة بليغة ، من أحب أن يرجع إليها فعليه بكتاب زاد المعاد لابن القيم رحمه الله .
أما هنا فيقول : (وعظنا موعظة بليغة، وجلت منا القلوب ، وذرفت منها العيون ) . وجلت : يعني خافت . وذرفت العيون من البكاء ، فأثرت فيهم تأثيراً بالغاً ، حتى قالوا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع فأوصنا ؛ لأن المودع إذا أراد المغادرة ، فإنه يعظ من خلفه بالمواعظ البليغة التي تكون ذكرى لهم فلا ينسونها ، ولهذا تجد الإنسان إذا وعظ عند فراقه لسفر أو غيره ، فإن الموعظة تمكث في قلب الموعوظ وتبقى ، لهذا قالوا : كأنها موعظة مودع فأوصنا .
فقال صلى الله عليه وسلم : (أوصيكم بتقوى الله ) وهذه الوصية التي أوصى بها الله ـ عز وجل ـ عباده ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) (النساء: من الآية131) ، والتقوى كلمة جامعة من أجمع الكلمات الشرعية ، ومعناها : أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله ، ولا يكون هذا إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي ، ولا يكون فعل الأوامر واجتناب النواهي إلا بعلم الأوامر والنواهي . إذاَ فلابد من علم ، ولابد من عمل ، فإذا اجتمع للإنسان العلم والعمل ، نال بذلك خشية الله ، وحصلت له التقوى .
فتقوى الله إذن : أن يتخذ الإنسان وقاية من عذابه ، بفعل أوامره ، واجتناب نواهيه ، ولا وصول إلى ذلك إلا بالعلم . وليس المراد بالعلم أن يكون الإنسان بحراً في العلم ، بل المراد به العلم بما يعين عليه من أوامر الله . والناس يختلفون في ذلك : فمثلاً من عنده مال يجب أن يعلم أحكام الزكاة ، ومن قدر على الحج وجب عليه أن يعلم أحكام الحج ، وغيرهم لا يجب عليهم ، فعلوم الشريعة فرض كفاية إلا ما تعين على العبد فعله، فإن علمه يكون فرض عين .
قال صلى الله عليه وسلم : (والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي ) . السمع والطاعة، يعني لولى الأمر ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي ) ، سواء كانت إمرته عامة ، كالرئيس الأعلى في الدولة ، أو خاصة كأمير بلدة ، أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك . وقد أخطأ من ظن أن المراد بقوله : ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي) أن المراد بهم الأمراء الذين دون الولي الأعظم الذي يسميه الفقهاء الإمام الأعظم ، لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى ، وهي الإمامة وما دونها ؛ كإمارة البلدان ، والمقاطعات والقبائل وما أشبه ذلك . ودليل هذا أن المسلمين منذ تولى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يسمون الخليفة ( أمير المؤمنين ) فيجعلونه أميراً . وهذا لا شك فيه ، ثم يسمى أيضاً إماماً ، لأنه السلطان الأعظم ، ويسمى سلطاناً . لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمونه ( أمير المؤمنين ) .
وقوله : ( وإن تأمر عليكم عبد حبشي ) يعني حتى ولو لم يكن من العرب ، لو كان من الحبشة ، وتولى ، وجعل الله له السلطة ، فإن الواجب السمع والطاعة له ، لأنه صار أميراً ، ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له ، لأصبح الناس فوضى ، كلٌ يعتدي على الآخر ، وكلٌ يضيع حقوق الآخرين ، وقوله : (والسمع والطاعة ) هذا الإطلاق مقيد بما قيده به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( إنما الطاعة في المعروف )(210) ثلاث مرات ، يعني فيما يقره الشرع ، وأما ما ينكره الشرع ، فلا طاعة لأحد فيه حتى لو كان الأب أو الأم أو الأمير العام أو الخاص ، فإنه لا طاعة له .
فمثلاً لو أمر ولي الأمر بأن لا يصلي الجنود ، قلنا : لا سمع ولا طاعة ، لأن الصلاة فريضة ، فرضها الله على العباد وعليك أنت أيضاً ، أنت أول من يصلي ، وأنت أول من تفرض عليه الصلاة ، فلا سمع ولا طاعة .
ولو أمرهم بشيء محرم ، كحلق اللحى مثلاً . قلنا : لا سمع ولا طاعة ، نحن لا نطيعك ، إنما نطيع النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال : ( اعفوا اللحى ، وحفّوا الشوارب )(211).
وهكذا كل ما أمر به ولي الأمر ، إذا كان معصية لله ، فإنه لا سمع له ولا طاعة ، يجب أن يعصى علناً ولا يهتم به ، أن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله ، فإنه لا حق له في السمع والطاعة . لكن يجب أن يطاع في غير هذا . يعني ليس معنى ذلك أنه إذا أمر بمعصية تسقط طاعته مطلقاً . لا . إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعين الذي هو معصية لله . أما ما سوى ذلك ، فإنه تجب طاعته ، وقد ظن بعض الناس أنه لا تجب طاعة ولي الأمر إلا فيما أمر الله به ، وهذا خطأ ، لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفذه ونفعله ، سواء أمرنا به ولي الأمر أم لا .
فالأحوال ثلاثة : إما أن يكون ما أمر به ولي الأمر مأموراً به شرعاً، كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلاً ، فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر ولي الأمر . وأما أن يأمر ولي الأمر بمعصية الله ، من ترك واجب أو فعل محرم ، فهنا لا طاعة له ولا سمع . وأما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعي ولا معصية شرعية ، فهذا تجب طاعته فيه ، لأن الله قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59) فطاعة ولي الأمر في غير معصية طاعة لله ولرسوله . والله الموفق .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم ، فسيرى اختلافاً كثيراً ) يعني أن من يعش منكم ويمد له في عمره ، فسيرى اختلافاً كثيراً ؛ اختلافاً كثيراً في الولاية ، واختلافاً كثيراً في الرأي ، واختلافاً كثيراً في العمل ، واختلافاً كثيراً في حال الناس عموماً ، وفي حال بعض الأفراد خصوصاً ، وهذا الذي وقع ؛ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم ينقرضوا حتى حصلت الفتن العظيمة في مقتل عثمان رضي الله عنه ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبلها مقتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، وغير ذلك من الفتن المعروفة في كتب التاريخ .
والذي يجب علينا ـ نحن إزاء هذه الفتن ، أن نمسك عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، وألا نخوض فيه ، وألا نتكلم فيه ؛ لأنه كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : هذه دماء طهر الله سيوفنا منها ، فيجب أن نطهر ألسنتنا منها , وصدق رضي الله عنه ، فما فائدتنا أن ننبش عما جرى بين علي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهما ، أو بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ـ من الحروب التي مضت وانقضت ، ذكر هذه الحروب وتذكرها لا يفيدنا إلا ضلالاً ؛ لأننا في هذه الحال نحقد على بعض الصحابة ، ونغلو في بعض ، كما فعلت الرافضة حين غلوا في آل البيت ، فزعموا أنهم يوالون آل البيت ، وبالله العظيم إن آل البيت لبرآء من غلوهم ، وأول من تبرأ من غلوهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فإن السبئية أتباع عبد الله بن سبأ ، وهو أول من سن الرفض في هذه الأمة ، وكان يهودياً ، أظهر الإسلام ليفسد الإسلام ، كما قال شيخ الإسلام أبن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو العلم الذي قد سبر حال القوم وعرفها ، قال : إن عبد الله بن سبأ يهودي دخل في الإسلام ليفسده ، كما دخل بولس في دين النصارى ليفسده ، هذا الرجل ـ أعني عبد الله بن سبأ ـ عليه من الله ما تولاه ـ تظاهر بأنه يحب آل البيت ، وبأنه يدافع عنهم ، ويدافع عن علي بن أبي طالب ، حتى أنه قام بين يدي علي بن أبي طالب يقول له : أنت الله حقاً ، قاتله الله ،لكن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أمر بالأخدود ؛ يعني بالحفر فحفرت ، ثم ملئت حطباً ، ثم دعا بأتباع هذا الرجل ثم أوقد فيهم النار ، أحرقهم بالنار ؛ لأن ذنبهم عظيم والعياذ بالله ، ويقال : إن عبد الله بن سبأ أفلت منه وهرب إلى مصر . والله أعلم .
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حينما بلغه الخبر : إن علي بن أبي طالب أصاب في قتلهم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وهؤلاء بدلوا دينهم ؛ ولكن لو كنت إياه لم أحرقهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تعذبوا بعذاب الله )(212) فبلغ ذلك علي بن أبي طالب فقال : ما أسقط ابن أم الفضل على الهنات يعني : العيب ، كأنه ـ رضي الله عنه ـ صوب ما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهم .
إنني أقول : إن من مذهب أهل السنة والجماعة ؛ أن نسكت عما شجر بين الصحابة ، فلا نتكلم فيه ، نعرض بقلوبنا وألسنتنا عما جرى بينهم ، ونقول : كلهم مجتهدون ، المصيب منهم له أجران ، والمخطئ منهم له أجر واحد ، تلك أمة قد خلت ، لما ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون ، لو قرأ إنسان التاريخ حول هذه الأمور ؛ لوجد العجب العجاب ، وجد من ينتصر لبي أمية ، ويقدح في علي بن أبي طالب وآل النبي ، ووجد من يغلو في علي بن أبي طالب وآل النبي ويقدح قدحاً عظيماً في بني أمية ؛ لأن التاريخ يخضع للسياسة .
لذا يجب علينا ـ نحن ـ فيما يتعلق بالتاريخ ألا نتعجل في الحكم ، لأن التاريخ يكون فيه كذب ، ويكون فيه هوى وتغيير للحقائق ، ينشر غير ما يكون ، ويحذف ما يكون ، كل هذا تبعاً للسياسة ، ولكن ـ على كل حال ـ ما جرى بين الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يجب علينا أن نكف عنه . كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، حتى لا يكون في قلوبنا غل على أحد منهم . نحبهم كلهم ، ونسأل الله أن يميتنا على حبهم ، نحبهم كلهم ونقول : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم .
قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق ـ : (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ) وهذا هو الذي وقع . ولكن هل هذه الجملة تنزل على كل زمان ، بمعنى أن من عاش من الناس فسوف يرى التغير ، أو أن هذا خاص بمن خاطبهم الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ . نقول : إنه ينطبق على كل زمن ، فالذين عمروا منا يجدون الاختلاف العظيم بين أول حياتهم وآخر حياتهم ، فمن عاش ومد له في العمر ؛ رأى التغير العظيم في الناس ، رأى التغير لأنه كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً) قد وقع ، وحصل خلاف بين الأمة في السياسة ، وفي العقيدة ، وفي الأفعال ، والأحكام العملية ، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم حث عند هذا الاختلاف على لزوم سنة واحدة فقال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا ـ عندما نرى هذا الاختلاف ـ أن نلزم سنته ، فقال: ( عليكم بسنتي ) يعني ألزموها. وكلمة :عليكم ، يقول علماء النحو : أنها جار ومجرور محول إلى فعل الأمر ، يعني: ألزموا سنتي .
وسنته عليه الصلاة والسلام هي : طريقته التي يمشي عليها ، عقيدة ، وخلقاً ، وعملاً ، وعبادةً وغير ذلك ، نلزم سنته ، ونجعل التحاكم إليها ، كما قال الله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) ، فسنة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ هي سبيل النجاة لمن أراد الله نجاته من الخلافات والبدع ، وهي ـ ولله الحمد ـ موجودة في كتب أهل العلم الذين ألفوا في السنة ، مثل الصحيحين للبخاري ومسلم ، والسنن والمسانيد وغيرها مما ألفه أهل العلم وحفظوا به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ) . الخلفاء جمع خليفة : وهم الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته علماً وعملاً ودعوة وسياسة ، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين الأربعة ؛ أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم ، وألحقنا بهم في جنات النعيم ، هؤلاء الخلفاء الأربعة ومن بعدهم من خلفاء الأمة ، الذين خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته ، هم الذين أمرنا باتباع سنتهم ، ولكن ليعلم أن سنة هؤلاء الخلفاء تأتي بعد سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلو تعارضت سنة خليفة من الخلفاء مع سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الحكم لسنة محمد صلى الله عليه وسلم لا لغيرها ؛ لأنها ـ أعني سنة الخلفاء -تابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
أقول هذا ؛ لأنه قد جرى نقاش بين طالبين من طلبة العلم في صلاة التراويح ، أحدهما يقول : السنة أن تكون ثلاثاً وعشرون ركعة . والثاني يقول : السنة أن تكون ثلاث عشرة ركعة ، أو إحدى عشرة ركعة . فقال الأول للثاني :هذه سنة الخليفة عمر بن الخطاب أنها ثلاث وعشرون ، يريد أن يعارض بهذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الآخر : سنة النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة ، هذا إن صح عن عمر أنها ثلاث وعشرون ، ومع أن الذي صح عن عمر بأصح إسناد ، رواه مالك في الموطأ أنه أمر تميماً الداري وأبي بن كعب أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة لا ثلاث وعشرون ، هذا الذي صح عنه رضى الله عنه . على كل حال لا يمكن أن نعارض سنة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بسنة أحد من الناس ، لا الخلفاء ولا غيرهم ، وما خالف سنة الرسول صلى الله عليه وسلم من أقوال الخلفاء ، فإنه يعتذر عنه ولا يحتج به ، ولا يجعل حجة على سنة الرسول صلى اله عليه وسلم .
المهم أن سنة الخلفاء الراشدين تأتي بعد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر !! هذا وهما أبو بكر وعمر فكيف بمن عارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول من دون أبى بكر وعمر بمراحل .
يوجد بعض الناس إذا قيل له : هذه هي السنة ، قال : لكن قال العالم الفلاني كذا وكذا ، من المقلدين المتعصبين . أما من احتج بقول عالم وهو لا يدري عن السنة فهذا لا بأس به ، لأن التقليد لمن لا يعلم بنفسه جائز ولا بأس به .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تمسكوا بها ) أي تمسكوا بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ، (عضوا عليها بالنواجذ ) والنواجذ : أقصى الأضراس ، وهو كناية عن شدة التمسك ، فإذا تمسك الإنسان بيديه بالشيء وعض عليه بأقصى أسنانه ، فإنه يكون ذلك أشد تمسكاً مما لو أمسكه بيد واحدة ، أو بيدين بدون عض ، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نمسك أشد التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وحث علة التمسك بها ، والعض عليها بالنواجذ ، قال : ( وإياكم ومحدثان الأمور ) . يعني أحذركم من محدثات الأمور ، أي من الأمور المحدثة ،وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ، والأمور المحدثة يعني بها صلوات الله وسلامه عليه : المحدثات في دين الله . وذلك لن الأصل قيما يدين به الإنسان ربه ، ويتقرب به إليه ، والأصل فيه المنع والتحريم ، حتى يقوم دليل على أنه مشروع .
ولهذا أنكر الله ـ عز وجل ـ على من يحللون ويحرمون بأهوائهم؛ فقال تعالى : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) (النحل: من الآية116) ، وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن به ؛ فقال : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ) (الشورى: من الآية21) ، وقال ( قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (يونس: من الآية59) .
أما الأمور العادية وأمور الدنيا ، فهذه لا ينكر على محدثاتها إلا إذا كان قد نص على تحريمه ، أو كان داخلاً في قاعدة عامة تدل على التحريم ، فمثلاً السيارات والدبابات وما أشبهها ، لا نقول إن هذه محدثة لم توجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يجوز استعمالها ، لأن هذه من الأمور الدنيوية ، الثياب وأنواعها ، لا نقول لا تلبس إلا ما كان يلبسه الصحابة ، البس ما شئت مما أحل الله لك ؛ لأن الأصل الحل ، إلا ما نص الشرع على تحريمه ، كتحريم الحرير والذهب على الرجال ، وتحريم ما فيه الصورة وما أشبه ذلك .
فقوله صلوات الله وسلامه عليه : (وإياكم ومحدثان الأمور) يعني في دين الله ، وفيما يتعبد به الإنسان لربه ، ثم قال : ( فإن كل بدعة ضلالة ) يعني أن كل بدعة في دين الله فهي ضلالة ، وإن ظن صاحبها أنها خير ، وأنها هدى ، فإنها ضلالة لا تزيده من الله إلا بعداً .
وقوله صلوات الله وسلامه عليه : ( كل بدعة ضلالة ) يشمل ما كان مبتدعاً في أصله ، وما كان مبتدعاً في وصفه . فمثلاً : لو أن أحد أراد أن يذكر الله بأذكار معينة بصفتها أو عددها ، بدون سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنا ننكر عليه ولا ننكر أصل الذكر ، ولكن ننكر ترتيبه على صفة معينة بدون دليل .
فإن قال قائل : ما تقولون في قول عمر ـ رضي الله عنه ـ حين أمر أبي بن كعب وتميماً الداري ـ رضي الله عنهما ـ أن يقوما بالناس في رمضان في تراويحهم ، وأن يجتمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا أوزاعاً ، فخرج ذات ليلة والناس خلف إمامهم فقال : ( نعمت البدعة هذه ) فأثنى عليها ووصفها بأنها بدعة ، والرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول : ( كل بدعة ضلالة ) .
قلنا : إن هذه البدعة ليست بدعة مبتدأة ، لكنها بدعة نسبية ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ثلاث ليال أو أربع ليال في رمضان ، يقوم بهم ، ثم تخلف في الثالثة أو الرابعة ، وقال : ( إني خشيت أن تفرض عليكم )(213) فصار الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن تركها خزفاً من أن تفرض علينا .
ثم بقيت الحال ما هي عليه ، يصلي الرجلان والثلاثة والواحد على حده ؛ في خلافة أبي بكر وفي أول خلافة عمر رضي الله عنهما جمع الناس على إمام واحد ، فصار هذا الجمع بدعة بالنسبة لتركه في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وفي عهد أبي بكر ، وفي أوا خلافة عمر رضي الله عنهما ، فهذه بدعة نسبية ، وإن شئت فقل : إنها بدعة إضافية ، يعني بالنسبة لترك الناس لها هذه المدة آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وخلافة أبي بكر وأول خلافة عمر . ثم أنه بعد ذلك استؤنفت هذه الصلاة ، وإلا فلا شك أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) عام ، وهو صادر من أفصح الخلق وأنصح الخلق ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو كلام واضحة ، كل بدعة مهما استحسنها مبتدعها ، فإنها ضلالة . والله الموفق .


(209) أخرجه أبو داود ، كتاب السنة ، باب في لزوم السنة ، رقم (4607)، والترمذي ، كتاب العلم ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة ، رقم (2676)، وابن ماجه ، المقدمة ، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين ، رقم (42) .
(210) أخرجه البخاري ، كتاب الأحكام ، باب السمع والطاعة للإمام ...، رقم (7145) ، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ، رقم (1840) .
(211) أخرجه البخاري كتاب اللباس ، باب تقليم الأظفار ، رقم (5892) ، ومسلم ، كتاب الطهارة ، باب خصال الفطرة ، رقم (259) .
(212) أخرجه البخاري ن كتاب استتابة المرتدين ، باب حكم المرتد ...، رقم (6922) .
(213) أخرجه البخاري ، كتاب صلاة التراويح ، باب فضل من قام رمضان ، رقم (2012) ، ومسلم كتاب صلاة المسافرين ، باب الترغيب في قيام رمضان ... ، رقم (761) .