165 ـ العاشر : عن أبن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : ( يا أيها الناس ، إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلاً ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 104) ، ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ؛ فأقول : يا رب أصحابي ؛ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ ) إلى قوله ( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (المائدة:117-118) فيقال لي : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) متفق عليه(222) . ( غرلاً ) : أي غير مختونين .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله ـ فيما نقله عن أبن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً ؛ وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم ، بل من هدي النبي عليه الصلاة والسلام ، أنه كان يخطب أصحابه الخطب الراتبة والخطب العارضة .
أما الخطب الراتبة : فمثل خطبة الجمعة ، خطبة العيد ، خطبة الاستسقاء ، خطبة الكسوف . هذه خطب راتبة ، كلما وجد سببها خطب عليه الصلاة السلام ؛ في الجمعة يخطب خطبتين قبل الصلاة ، وفي العيد خطبة واحدة بعد الصلاة ، وكذلك في الاستسقاء ، وفي كسوف خطبة واحدة بعد الصلاة .
أما الخطب العارضة : فإنها تكون إذا وجد سبب عارض ؛ فيقوم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ خطيباً يخطب الناس .
فمن ذلك : أن رجلاً بعثه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عاملاً على الصدقة يأخذها من أهلها ، فرجع إلى المدينة ومعه أبل فقال : هذه لكم وهذه أهديت إلى . فخطب النبي عليه الصلاة والسلام ، وقال : ( ما بال أحدكم نسـتعمله على العمل ، فيرجع ويقول : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا ؟ )(223) .
وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، أنه لم يهد لهذا العمل الذي هو تابع للدولة إلا من أجل أنه عامل ، لو كانوا يريدون أن يهدوا إليه لشخصه ، لأهدوا إليه في بيت أبيه وأمه .
ومن هذا الحديث نعرف عظمة الرشوة ، وأنها من عظائم الأمور التي أدت إلى أن يقوم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ خطيباً يخطب في الناس ، ويحذرهم من هذا العمل ؛ لأنه إذا فشا في قوم الرشوة هلكوا ، وصار كل واحد منهم لا يقول الحق ، ولا يحكم بالحق ، ولا يقوم بالعدل إلا إذا رشي والعياذ بالله .
والرشوة ملعون آخذها ، وملعون معطيها ، إلا إذا كان الآخذ يمنع حق الناس إلا برشوة ، فحينئذ تكون اللعنة على هذا الآخذ لا على المعطي ؛ لأن المعطي إنما يريد أن يعطي لأخذ حقه ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بدفع الرشوة ، فهو معذور . كما يوجد ـ والعياذ بالله ـ الآن في بعض المسئولين في الدول الإسلامية ؛ من لا يمكن أن يقضي مصالح الناس إلا بهذه الرشوة والعياذ بالله ، فيكون آكلاً للمال بالباطل ، معرضاً نفسه للعنة . نسأل الله العافية .
والواجب على من ولاه الله عملاً أن يقوم به بالعدل ، وأن يقوم بالواجب فيه بحسب المستطاع .
ومن ذلك أيضاً : أن بريرة وهي أمة لجماعة من الأنصار ، كاتبها أهلها على تسع أوراق من الفضة ، فجاءت إلى أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ تستعينها ؛ تطلب منها العون لتقضي كتابتها ، فقالت : إن شاء أهلك أن أعدها لهم ، يعني أنقدها نقداً ، ويكون ولاؤك لي فعلت ، فذهبت بريرة إلى أهلها ، يعني أسيادها، فقالت لهم ذلك . فقالوا : لا . الولاء لنا . فرجعت بريرة إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ وأخبرتها بأن أهلها قالوا : لابد أن يكون الولاء لنا . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق ) فأخذتها واشترطت الولاء لهم ، ثم خطب الناس عليه الصلاة والسلام وقال : ( ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق )(224) .
ومن ذلك أيضاً : أن امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع ، تقول للناس : أعيروني شيئاً ، فيعيرونها المتاع ؛ القدر والقربة وما أشبه ذلك من متاع البيت ، ثم بعد ذلك تقول : ما أعرتموني شيئاً !! تجحد ذلك ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها ؛ لأنها سارقة ، هذه سرقة ، فاهتمت قريش لهذا الأمر ؛ كيف تقطع يد مخزومية من بني مخزوم ، من كبار قبائل العرب ، فطلبوا من يشفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فأرسلوا أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويحب أباه ، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم في شأن تلك المرأة يشفع لها ، فقال النبي عليه الصلاة السلام : ( أتشفع في حد من حدود الله ؟) يقول منكراً عليه ، لأن حدود الله ليس فيها شفاعة ، فإذا وصلت للسلطان فلعن الله الشافع والمشفع له .
ثم قام في الناس يخطب ، فقال : ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه . وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ) . وأخبر أن هذا هو الذي أهلك الأمم السابقة . ثم قال عليه الصلاة والسلام : ( وايم الله ـ يعني أحلف بالله ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )(225) فهل هذه المخزومية أفضل أم فاطمة بنت محمد ؟ فاطمة أفضل منها ، ومع ذلك يقول عليه الصلاة والسلام : ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها ) .
فهذه من الخطب العارضة ، فكان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من هديه أنه يخطب الناس لأمور راتبة ولأمور عارضة ، وسبق لنا حديث العرباض بن سارية قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون .
والخلاصة : أنه يستفاد من هذا الحديث أنه ينبغي للإنسان من قاض ، أو مفتٍ ، أو عالم ، أو داعية ، أن يخطب الناس في الأمور العارضة التي يحتاجون فيها إلى بيان الحق ، وفي الأمور الراتبة ، مثل الجمعة ، والعيدين ، والاستسقاء ، والكسوف كما مر ، وهذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن تبليغه ، لأن الشيء إذا جاء في وقته عند حاجته صار له قبول أكثر .
وقد نقل المؤلف ـ رحمة الله ـ عن أبن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فيهم خطيباً ، وهذه من خطبه العارضة صلى الله عليه وسلم ، فقد قام فيهم خطيباً وقال : ( إنكم محشورون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ) . محشورون : يعنى مجمعون في صعيد واحد النبي صلي الله عليه وسلم ليس فيه جبال، وليس فيه أودية، ولا بناء ، ولا أشجار ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، يعني لو دعاهم داع لأسمعهم جميعاً ؛ لأنه ليس هناك ما يحول بينهم وبين إسماعهم وينفذهم البصر أي يدركهم جميعاً .
(حفاة عراة غرلاً ) وفي رواية : ( بهماً ) .
حفاة : ليس عليهم نعال ، ولا خفاف ، ولا يقوون به أرجلهم .
عراة : ليس عليهم كسوة ، بادية أبشارهم .
غزلاً : يعني غير مختونين .
والختان هو : قطع الجلدة التي تكون على الحشفة ، وتقطع من أجل تمام الطهارة كما سنبينه إن شاء الله .
بهماً : قال العلماء بهماً : أي ليس معهم مال ، فيكون الإنسان مجرداً من كل شيء ، ثم استدل لذلك بقوله تعالى ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: من الآية104) ، يعني أن الله يحشرهم كما بدأهم أول خلق ، يخرجون من بطون الأرض كما خرجوا من بطون أمهاتهم ، حفاة عراة غرلاً ؛ (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) . ثم قال عز وجل : (وَعْداً عَلَيْنَا ) أي مؤكداً ، أكده الله على نفسه ، لأن هذا المقام يقضي التوكيد ، فإن من البشر من كذب بالحشر والعياذ بالله ، وقال :( إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (المؤمنون:37) ، فقال عز وجل : (وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) .
حدث النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهذا الحديث ، فقالت عائشة رضى الله عنها : واسوءتاه . الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة ، الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك)(226) الأمر عظيم ، ما ينظر أحد لأحد ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37).
حتى الرسل ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند عبور الصراط فدعاؤهم : اللهم سلم ، اللهم سلم ، لا يدري أحد أينجو أم لا .الأمر عظيم . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك ) ثم قال : ( ألا وأن أول من يكسى إبراهيم ) إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، هو أول مي يكسى يوم القيامة .
وهذه الخصيصة ـ أنه يكون أول من يكسى لا تدل على التفضيل المطلق ، وأنه أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام ، لأن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والرسل ، سيد ولد أدم يوم القيامة ، لا يؤذن لأحد يشفع للخلائق يوم القيامة إلا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما في قوله تعالى : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (الإسراء: من الآية79) ، لكن قد يخص الله بعض الأنبياء بشيء لا يخص به الآخر ، مثل قوله تعالى : ( يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) (الأعراف:144) .
فالرسالات كانت موجودة في غيره ، لكن في وقته كان هو الرسول لبني إسرائيل ، كذلك أيضاً قد يخص الله أحد من الأنبياء أو غيرهم بخصيصة يتميز بها عن غيره ، ولا يوجب ذلك الفضل المطلق .
( ألا وإن أول من يكسى إبراهيم ) عليه الصلاة والسلام ، ولا يقال : لماذا كان أول من يكسى ، لأن الفضائل لا يسأل عنها ، كما قال الله تعالى : ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (الحديد: من الآية21) ، لا يسأل عنها ؛ لأن الإنسان قد يصل فيها إلى نتيجة وقد لا يصل ، فكما أن الله تعالى ـ فضل بني أدم بعضهم على بعض في الرزق ، وفي كمال الأخلاق والآداب ، وكذلك فضل بعضهم على بعض في العلم ، وكذلك في البدن والفكر وغير ذلك ، فالله ـ تعالى ـيؤتي فضله من يشاء .
وفي هذا الحديث دليل على أن الناس يكسون بعد أن يخرجون حفاة عراة غرلاً . ولكن بأي طريق يكسون؟ الله أعلم بذلك ، ليس هناك خياطون ، ولا هناك ثياب تفصل ولا شيء ، فالله أعلم بكيفية ذلك . الذي خلقهم هو الذي يكسوهم سبحانه وتعالى ، ويأتي إن شاء الله بقية الكلام عن الحديث .
وفي هذا الحديث إشارة إلى الختان ، في قوله : ( غرلاً ) فالأغرل هو الذي بقيت عليه جلدة الحشفة ؛ أي لم يختن . والختان اختلف العلماء في وجوبه ، فمنهم من قال : إنه واجب على الذكور والإناث ، وأنه يجب أن تختن البنت كما يختن الولد .
ومن العلماء من قال : أنه لا يجب الختان لا على الرجال ولا على النساء ، وأن الختان من الفطرة المستحبة ، وليس من الفطرة الواجبة .
ومنهم من توسط بين القولين فقال : الختان واجب في حق الذكور ، وسنة في حق النساء ، وهذا القول أوسط الأقوال وأعدلها ، فإنه واجب في حق الرجال ، لأن الرجل إذا بقيت هذه الجلدة فوق حشفته ، فإنها ستكون مجمعاً للبول ، فيكون في ذلك تلويث للرجل ، وربما يحدث إثر هذا التهابات فيما بين الجلدة والحشفة ، ويتضرر الإنسان . فالصحيح أن الختان واجب على الذكور ، وسنة في حق الإناث ، وهو أعدل الأقوال وأحسنها .
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يؤتي برجال من أمته فيؤخذ بهم ذات الشمال ، أي إلى طريق أهل النار والعياذ بالله . فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصحابي ) أي يشفع إلى ـ الله سبحانه وتعالى ـ فيهم ، فيقال له : ( إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم كما قال العبد الصالح ؛ يعني به عيسى بن مريم ؛ حين يقول يوم القيامة إذا قال الله تعالى له: ( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كما يزعم النصارى الذين يقولون : أنهم متبعون له : ( قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) (المائدة:116) لأن الألوهية ليست حقاً لأحد إلا الله رب العالمين .
ثم يقول : ( إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المائدة :116-117) .
فإذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ، قال كما قال عيسى بن مريم : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .
ثم يقال للرسول عليه الصلاة والسلام : ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) فيقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( سحقاً سُحقاً ) .
قوله : ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) تمسك به الرافضة الذين قالوا : إن الصحابة كلهم ارتدوا عن الإسلام والعياذ بالله ، ومنهم أبو بكر ، عمر ، وعثمان رضي الله عنهم . أما على وآل البيت ـ رضي الله عنهم ـ فهم لم يرتدوا على زعمهم .
ولا شك أنهم في هذا كاذبون ، وأن الخلفاء الأربعة كلهم لم يحصل منهم ردة بإجماع المسلمين ، وكذلك عامة أصحاب النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يحصل منهم ردة بالإجماع المسلمين ، إلا قوماً من الأعراب كانوا حديثي عهد بالإسلام لما مات النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ افتتنوا ، وارتدوا على أدبارهم ، ومنعوا الزكاة ، حتى قاتلهم الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه ، وعاد أكثرهم إلى الإسلام .
ولكن الرافضة من شدة حنقهم وبغضهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تمسكوا بظاهر هذا الحديث .
أما أهل السنة والجماعة فقالوا : إن هذا الحديث عام يراد به الخاص ، وما أكثر العام الذي يراد به الخاص . فقوله : ( أصحابي ) يعني ليسوا كلهم ، بل الذين ارتدوا على أدبارهم ، لأن هكذا قيل للرسول عليه الصلاة والسلام : ( إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ) . ومعلوم أن الخلفاء الراشدين ، عامة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، لم يرتدوا بالإجماع ، ولو قدر أنهم ارتدوا لم يبق لنا ثقة بالشريعة . ولهذا كان الطعن في الصحابة يتضمن الطعن في شريعة الله ، وستضمن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتضمن الطعن بالله رب العالمين .
الذين يطعنون في الصحابة تضمن طعنهم أربعة محاذير ومنكرات عظيمة والعياذ بالله : الطعن في الصحابة ، والطعن في الشريعة ، والطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ، والطعن في رب العالمين تبارك وتعالى ، لكنهم قوم لا يفقهون ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون ) (البقرة: من الآية171) .
أما كونه طعناً في الشريعة : فلأن الذين نقلوا إلينا الشريعة هم الصحابة ، وإذا كانوا مرتدين ، والشريعة جاءت من طريقهم ، فإنها لا تقبل لأن الكافر لا يقبل خبره ، بل الفاسق أيضاً ؛ كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: 6) .
وأما كونه طعناً برسول الله صلى الله عليه وسلم : فيقل : إذا كان أصحاب النبي بهذه المثابة من الكفر والفسوق ، فهو طعن بالرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن القرين على دين قرينه ، وكل إنسان يعاب بقرينه إذا كان قرينه سيئاً ؛ يقال : فلان ليس فيه خير ؛ لأن قرناءه فلان وفلان وفلانٌ من أهل الشر . فالطعن في الأصحاب طعن بالمصاحب .
وأما كونه بالله رب العالمين فظاهر جداً : أن يجعل أفضل الرسالات وأعمها وأحسنها على يد هذا الرجل الذي هؤلاء أصحابه ، وأيضاً أن يجعل أصحاب هذا النبي الذي هو أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ـ مثل هؤلاء الأصحاب الذين زعمت الرافضة أنهم ارتدوا على أدبارهم . ولهذا نعتقد أن هذه فرية عظيمة على الصحابة رضي الله عنهم ، وعدوان على الله ورسوله وشريعة الله ؛ ولا شك أننا نكن الحب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولآل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين ، ونرى أن لآله المؤمنين حقين : حق الإيمان ، وحق قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (الشورى: من الآية23) ، يعني إلا أن تودوا قرابتي على أحد التفاسير . والتفسير الآخر لقوله تعالى : ( إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) أي إلا أن تودوني لقرابتي منكم .
وعلى كل حال ، فهذا الحديث ليس فيع مطمع للرافضة في القدح في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يصدق إ لا على من ارتدوا ، أما من بقوا على الإسلام ، وأجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ؛ فإنهم لا يدخلون في هذا الحديث ، ويقال : إن الذي خصص هذا الحديث إجماع المسلمين على أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يرتدوا ، وإنما ارتدت طائفة قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ورجع أكثرهم إلى الإسلام . والله الموفق .


(222) أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب قوله تعالى : ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) ، رقم (3349) ، ومسلم ، كتاب الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، رقم (2860) .
(223) أخرجه البخاري ، كتاب الحيل ، باب احتيال العامل ليهدى إليه ، رقم (6979)، ومسلم ، كتاب الإمارة ، باب تحريم هدايا العمال رقم (1832) .
(224) أخرجه البخاري ، كتاب الشروط في الولاء ، رقم ( 2729) ، ومسلم ،كتاب العتق ، باب إنما الولاء لمن أعتق ، رقم (1504) .
(225) أخرجه البخاري ، كتاب الحدود ، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان ، رقم (6788)، ومسلم ، كتاب الحدود ، باب قطع السارق الشريف وغيره ...، رقم ( 1688) .
(226) أخرجه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب الحشر ، رقم (6527) ، ومسلم ، كتاب الجنة باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة رقم ( 2859) .

الموضوع السابق


164ـ التاسع : عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال : ( إنكم لا تدرون في آيه البركة ) رواه مسلم(219) . وفي رواية له : ( إذا وقعت لقمة أحدكم . فيأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ، ولا يدعها للشيطان ، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه ، فإنه لا يدري في أي طعامه البركة )(220) . وفي رواية له : ( إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى فليأكلها ، ولا يدعها للشيطان )(221) .