167 ـ وعن عباس بن ربيعة قال : ( رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر ـ يعني الأسود ـ ويقول : ( إني أعلم أنك حجر ما تنفع ولا تضر ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ) متفق عليه(231) .
 
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف ـ رحمه الله ـ عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في باب الأمر باتباع السنة وآدابها ، فقد كان ـ رضي الله عنه ـ يطوف بالكعبة ، فقبل الحجر الأسود ، والحجر كما نعلم حجر من الأرض جعل في هذا الركن(232) .
وشرع الله ـ سبحانه وتعالى ـ لعباده أن يقبلوه ؛ لكمال الذل والعبودية ، ولهذا قال عمر ـ رضي الله عنه ـ حين قبله ( إني لأعلم حجر أنك لا تضر ولا تنفع ) . وصدق رضي الله عنه ، فإن الأحجار لا تضر ولا تنفع . الضرر والنفع بيد الله ـ عز وجل ـ كما قال تعالى : ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ (المؤمنون: 88-89).
ولكن بين ـ رضى الله عنه ـ أن تقبيله إياه لمجرد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ( ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) يعني فأنا أقبلك اتباعاً للسنة ، لا رجاء للنفع ، أو خوف الضرر ؛ ولكن لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . ولهذا لا يشرع أن يقبل شيء من الكعبة المشرفة إلا الحجر الأسود فقط ، أما الركن اليماني فيستلم ـ يعني يمسح ولا يقبل . والحجر الأسود أفضل شيء أن يمسحه بيده اليمني ويقبله ، فإن لم يمكن استلمه وقبل يده ، فإن لم يمكن أشار إليه بشيء معه أو بيده ، ولكن لا يقبل ما أشار به ، لأن هذا الذي أشار به لم يمس الحجر حتى يقبله .
أما الركن اليماني فليس فيه إلا استلام فقط ، ويكون الاستلام باليد اليمنى . ونرى بعض الجهال الذين لا يدرون لماذا استلموا هذا الحجر يستلم باليد اليسرى ، واليد اليسرى كما قال أهل العلم : لا تستعمل إلا في الأذى ، في القذر والنجاسات وما أشبهها ، أما أن تعظم بها شعائر الله فلا .
ثم أن بقية الأركان : الركن الشامي ، والعراقي ، يعني الشمالي الشرقي والشمالي الغربي ، هذان الركنان لا يقبلان ولا يمسحان ، وذلك لأنهما ليس على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك أن قريشاً لما أرادوا بناء الكعبة ، قالوا : لن نبنها إلا بمال طيب ، لا نبتها بأموال الربا ، وانظر كيف عظم الله بيته حتى على أيدي الكفار ، فجمعوا المال الطيب ، فلم يكف لبنائها على قواعد إبراهيم ، ثم فكروا من أي جانب ينقصوها . قالوا ننقصها من الشمال ؛ لأن الجانب اليماني الجنوبي فيه الحجر الأسود ، ولا يمكن أن ننقصها من جانب الحجر الأسود ، فتقصوها من هناك ، قلم تكن على قواعد إبراهيم عليه الصلاة السلام ، لذلك لم يقبل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم يمسح الركن الشمالي الشرقي ولا الركن الشمالي الغربي .
ولما طاف معاوية ـ رضي الله عنه ـ ذات سنة ، وكان معه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، جعل معاوية يمسح الأركان الأربعة ؛ الحجر الأسود، والركن اليماني ، والشمالي ، والغربي ، فقال له أبن عباس : كيف تمسح الركنين الشماليين ، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يمسح إلا الركن اليماني والحجر الأسود . ؟ فقال معاوية : إنه ليس شيء من البيت مهجوراً . يعني البيت لا يهجر ، كله يحترم ويعظم ، فقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو أفقه من معاوية قال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة) (الأحزاب: من الآية21) ، وما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح إلا الركنين اليمانيين ، يعني ركن الحجر الأسود والركن اليماني , فقال له معاوية : صدقت ورجع إلى قوله(233). لأن الخلفاء فيما سبق ـ وإن كانوا كالملوك في الأبهة والعظمة ـ لكنهم كانوا يرجعون إلى الحق ، ولهذا رجع معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى الحق ، وقال له : صدقت ، وترك مسح الركنين الشمالي الشرقي والشمالي الغربي .
وهذا الحديث الذي ذكره المؤلف عن عمر ـ رضي الله عنه ـ دليل على جهالة اؤلئك القوم الذين نشاهدهم ، يقف أحدهم عن الركن اليماني فيمسحه بيده ، ويكون معه طفل فد حمله ، فيمسح الطفل بيده يتبرك بالركن ، وكذلك لو تيسر له لمسح على الحجر الأسود ، مسح الطفل للبركة ، وهذا لا شك أنه بدعة ، وأنه نوع من الشرك الأصغر ؛ لأن هؤلاء جعلوا ما ليس سبباً سَبباً ، والقاعدة : أن كل أحد يجعل شيئاً سبباً لشيء بدون إذن من الشارع فإنه يكون مبتدعاً ، ولهذا يجب على من رأى أحداً يفعل هذا أن ينصحه ، يقول له : ( هذا غير مشروع ، هذا بدعة ) حتى لا يظن الناس أن الأحجار تنفع أو تضر ، ثم تتعلق قلوبهم بها في شيء أكبر وأعظم من هذا .
وقد بين أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه لا يفعل ذلك إلا اتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فإنه يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ، وفي هذا دليل على أن كمال التعبد أن ينقاد الإنسان لله عز وجل ، سواء عرف السبب والحكمة في المشروعية أم لم يعرف . فعلى المؤمن إذا قيل له أفعل ؛ أن يقول : سمعنا وأطعنا ، وإن عرفت الحكمة فهو نور على نور ، وإن لم تعرف فالحكمة أمر الله ـ تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ولهذا قال الله في كتابه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (الأحزاب: من الآية36) . وسئلت عائشة ـ رضي الله عنها ـ لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة ، فقالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ، كأنها ـ رضي الله عنها تقول : إن وظيفة المؤمن أن يعمل بالشرع ، سواء عرف الحكمة أم لم يعرفها ، وهذا هو الصواب .
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن يتوفانا عليها ، وأن يحشرنا في زمرته ، إنه جواد كريم .


(231) أخرجه البخاري ، كتاب الحج ، باب تقبيل الحجر ، رقم ( 1610) ، ومسلم ، كتاب الحج ، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف ، رقم (1270) .
(232) وفي الشرح الممتنع (7/268) قال فضيلة الشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ : يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن ، ولكن سودته خطايا بني آدم ) أخرجه الإمام أحمد ، (4/223) والترمذي ، كتاب الحج ، باب ما جاء في فضل الحجر الأسود ، (877) وقال : حسن صحيح ، والنسائي ، كتاب مناسك الحج ، باب ذكر الحجر الأسود ( 2935) .
فإن كان صحيحاً فلا غرابة أن يكون نازلاً من الجنة ، وإن لم يكن الحديث صحيحاً فلا إشكال فيه . أه .
(233) أخرجه بهذا السياق أحمد في المسند ، رقم (1/217) وأصله في البخاري ، كتاب الحج باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين رقم ( 1608)

الموضوع التالي


17 ـ باب وجوب الانقياد لحكم الله تعالى وما يقوله من دعي إلى ذلك وأمر بمعروف أو نهى عن منكر قال تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) . وقال الله تعالى : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور:51) . وفيه من الأحاديث حديث أبي هريرة المذكور في أول الباب قبله وغيره من الأحاديث فيه . 168 ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ) (البقرة: من الآية284) ، أشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله ، كلفنا من الإعمال ما نطيق : الصلاة والجهاد والصيام والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) قالوا :سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير . فلما اقترأها القوم ، وذلت بها ألسنتهم؛ أنزل الله تعالى في أثرها : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285) ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى ؛ فأنزل عز وجل : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) قال : نعم ( رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ) قال : نعم ( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) قال : نعم ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286) ، قال: نعم ) رواه مسلم(234) .