170 ـ وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : ( صبحكم ومساكم ) ويقول : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ويقرن بين إصبعيه ؛ السبابة والوسطى ، ويقول : ( أما بعد ؛ فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) ثم يقول : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي ) رواه مسلم(243) .
 
نقل المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ في باب التحذير من البدع ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا خطب ) يعني يوم الجمعة ، ( احمرت عيناه وعلا صوته ، واشتد غضبه ) وإنما كان يفعل هذا لأنه أقوى في التأثير على السامع ، فكان صلى الله عليه وسلم يكون على هذه الحال للمصلحة ، وإلا فإنه من المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقاً وألينهم عريكة ، لكن لكل مقام مقال ، فالخطبة ينبغي أن تحرك القلوب ، وتؤثر في النفوس ، وذلك في موضوعها ، وفي كيفية أدائها .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ويقرن بين السبابة والوسطى ، يعني بين الإصبعين ، السبابة وهي التي بين الوسطى والإبهام ، والوسطى ، وأنت إذا قرنت بينهما وجدتهما متجاورين ، ووجدت أنه ليس بينهما إلا فرق يسير ، ليس بين الوسطى والسبابة إلا فرق يسير مقدار الظفر أو نصف الظفر ، وتسمى السبابة لأن الإنسان إذا أراد أن يسب أحد أشار إليه بها ، وتسمى السبابه أيضاً لأن الإنسان عند الإشارة إلى تعظيم الله عز وجل يرفعها ، ويشير بها إلى السماء ، والمعنى أن أجل الدنيا قريب وأنه ليس ببعيد ، وهذا كما فعل صلى الله عليه وسلم ذات يوم حيث خطب الناس في آخر النهار ، والشمس على رؤوس النخل ، فقال : ( إنه لم يبق من ديناكم إلا مثل ما بقي من هذا اليوم )(244) .
فإذا كان الأمر كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم الآن مات له ألف وأربعمائة سنة ولم تقم القيامة دل هذا على أن الدنيا طويلة الأمد ، ولكن ما يقدره بعض الجيولوجيين من عمر الدنيا الماضي بملايين الملايين فهذا خرص ، لا يصدق ولا يكذب ، فهو كأخبار بني إسرائيل ؛ لأنه ليس لدينا علم من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في مقدار ما مضى من الدنيا ، ولا في مقدار ما بقى منها على وجه التحديد ، وإنما هو كما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمثال ، والشيء الذي ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة وهو من أخبار ما مضى ، فإنه ليس مقبولاً ، وإنما ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما شهد الشرع بصدقه ، فهذا يقبل لشهادة الشرع به .
القسم الثاني : ما شهد الشرع بكذبه ، فهذا يرد لشهادة الشرع بكذبه .
القسم الثالث : ما ليس فيه هذا ولا هذا ، فهذا يتوقف فيه ، إما أن يكون حقاً ، وإما أن يكون باطلاً ، ويدل لهذا قوله تعالى:(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ )(إبراهيم: 9) فإذا حصر الله جل وعلا العلم في نفسه فإنه لا يتلقى علم هؤلاء إلا من وحيه عز وجل ، لا يعلمهم إلا الله ، فأي أحد يدعي شيئاً فيما مضى مما يتعلق بالبشرية أو بطبيعة الأرض أو الأفلاك أو غيرها فإننا لا نصدقه ولا نكذبه ، بل نقسم ما أخبره به إلى الأقسام الثلاثة السابقة .
أما المستقبل فالمستقبل ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما أخبر الشرع بوقوعه ، فهذا لابد أن يقع مثل أخبار يأجوج ومأجوج ، وأخبار الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أشبه ذلك ، مما ثبت في الكتاب والسنة .
القسم الثاني : ما لم يرد به كتاب ولا سنة ، فهذا القول فيه من التخمين والظن ، بل لا يجوز لأحد أن يصدقه فيما يستقبل ؛ لأنه من علم الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل .
ثم يقول : ( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) ، وقد سبق الكلام على هذه الجمل .
ثم يقول : ( أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ) كما قال ربه عز وجل : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (الأحزاب:6) فهو أولى بك من نفسك ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم عليه الصلاة والسلام ، ثم يقول : (من ترك مالاً فلأهله ) يعني من ترك من الأموات مالاً فلأهله ؛ يرثونه حسب ما جاء في كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم . (ومن ترك ديناً أو ضياعاً ) ، يعني أولاداً صغاراً يضيعون ( فإلي وعلي ) ، يعني فأمرهم إلي ، أنا وليهم ، والدين علي أنا أقضيه ، هكذا كان صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه .
أما قبل ذلك فكان يؤتي بالرجل ليصلي عليه فيسأل : ( هل عليه دين ؟ ) إن قالوا : نعم وليس له وفاء ترك الصلاة عليه ، فجيء إليه في يوم من الأيام برجل من الأنصار فتقدم ليصلي عليه ، ثم سأل عليه دين ؟ قالوا : نعم ثلاثة دنانير ، فتأخر وقال : ( صلوا على صاحبكم ) فعرف ذلك في وجوه القوم . ثم قام أبو قتادة رضي الله عنه وقال : ( صل عليه يا رسول الله وعلي دينه ، فالتزمهما أبو قتادة رضي الله عنه ، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى (245).
وفي هذا دليل على عظم الدين وأنه لا ينبغي للإنسان أن يستدين إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، لا يستدين لا لزواج ، ولا لبناء بيت ، ولا لكماليات في البيت ، كل هذا من السفه ، يقول الله عز وجل ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور:33) ، هذا في النكاح فما بالك بما هو دونه بكثير .
وكثير من الجهال يستدين ليشتري مثلاً فراشاً للدرج ، أو فراشاً للساحة ، أو باباً ينفتح بالكهرباء أو ما أشبه ذلك ، مع أنه فقير ، ويأخذه بالدين فهو إن اشترى شيئاً بثمن مؤجل فهو دين ؛ لأن الدين عند العلماء كل ما ثبت في الذمة من ثمن بيع أو قرض أو أجرة أو غير ذلك ، فإياكم والديون احذروها فإنها تهلككم ، إلا شيئاً ضرورياً فهذا شيء آخر ، لكن ما دمت في غنى فلا تستدن .
وكثير من الناس يستدين مثلاً أربعين ألفاً ، فإذا حل الأجل قال : ليس عندي شيء ، فيستدين للأربعين ألفاً التي عليه ستين ألفاً ، ثم يستدين السنة التالية ، ثم تتراكم عليه الديون الكثيرة من حيث لا يشعر ، والله الموفق .



(243) أخرجه مسلم ، كتاب الجمعة ، باب تخفيف الصلاة والخطبة ، رقم (867) .
(244) أخرجه الترمذي ، كتاب الفتن ، باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة ، رقم (2191) ، وأحمد في المسند (3/19)، وقال الترمذي : حسن صحيح .
(245) تقدم تخريجه .