19 ـ باب فيمن سن سنة حسنة أو سيئة قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74) وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (الأنبياء:73).
 
ذكر المؤلف ـ رحمه اله تعالى ـ هذا الباب ( باب فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة ) ليبين أن من الأشياء ما يكون أصله ثابتاً ، فإذا فعله الإنسان وكان أول من يفعله كان كمن سنه وصار له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة .
وقد سبق لنا أن الدين الإسلامي ولله الحمد كامل ، لا يحتاج إلى تكميل ، ولا إلى بدع ؛ لأن الله تعالى قال : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) (المائدة:3) .
ثم استشهد المؤلف بآيتين من كتاب الله ، أولاهما : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) (الفرقان:74) ، هذا من جملة ما يدعو به عباد الرحمن ، الذين ذكر الله أوصافهم في آخر سورة الفرقان ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) إلى أن قال ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) (الفرقان :63،74) .
( هَبْ لَنَا ) يعني أعطنا ، و( الأزواج ) جمع زوج ، وهو صالح للذكر والأنثى ، والزوج الذكر يسمى زوجاً ولهذا تجد في الأحاديث : عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه هي اللغة الفصحى أن المرأة تسمى زوجاً ، لكن أهل الفرائض ـ رحمهم الله ـ جعلوا للرجل زوج وللمرأة زوجة ، من أجل التفريق عند قسمة المواريث ، أما في اللغة العربية فالزوج صالح للذكر والأنثى .
فهذا الدعاء ( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) كما هو صالح للرجال صالح للنساء أيضاً .
( قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) في المرأة أنك إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك وفي ولدك ، وإذا بحثت عنها وجدتها قانتة لله ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) (النساء:34)، فهذه تسر زوجها .
وكذلك أيضاً الذرية إذا جعلهم الله تعالى قرة عين للإنسان ، يطيعونه إذا أمر ، وينتهون عما نهاهم عنه ، ويسرونه في كل مناسبة ، ويصلحون فهذا من قرة الأعين للمتقين .
والجملة الأخيرة : (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) هي الشاهد لهذا الباب ، يعني اجعلنا للمتقين أئمة ، يقتدى بنا المتقون في أفعالنا وأقوالنا ، فيما نفعل وفيما نترك ، فإن المؤمن ولا سيما أهل العلم يقتدى بهم ؛ بأقوالهم وأفعالهم ، ولهذا تجد العامة إذا أمرتهم بشيء أو نهيتهم عن شيء ، قالوا : هذا فلان يفعل كذا وكذا ، ممن جعلوه إماماً لهم .
والأئمة تشمل الأئمة في الدين الذي هو العبادة الخاصة بالإنسان ، والأئمة في الدعوة ، وفي التعليم ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من شعائر الدين وشرائعه ، اجعلنا للمتقين إماماً في كل شيء .
أما الآية الثانية فقال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (الأنبياء:73) ، أي صيرناهم أئمة علماء يهدون الناس ، أي يدلونهم على دين الله بأمر الله عز وجل ، ولكن ليت المؤلف ذكر آخر الآية؛ لأن الله بين أنه جعلهم أئمة بسبب ( يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ) (السجدة:24)، لما صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن معصية الله ، وصبروا على أقدار الله ؛ صبروا على طاعة الله ففعلوا ما أمر ، وصبروا عن معصية الله فتركوا ما نهى عنه ، وصبروا على أقدار الله التي تأتيهم من أجل دعوتهم إلى الحق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ؛ لأن الإنسان إذا نصب نفسه داعية للحق آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر ، فلابد أن يصيبه من الأذى ما يصيبه ، لأن أكثر الذين يكرهون الحق سوف يكونون أعداء له فليصبر ، وكذلك أقدار الله التي تأتي بدون هذا أيضاً يصبرون عليها .
( وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ) يوقنون بما أخبرهم الله به ، ويوقنون بالجزاء الذي يحصل لهم في فعل الأوامر ، وترك النواهي ، وفي الدعوة إلى الله ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي أنهم يعملون وهم يوقنون بالجزاء ، وهذه نقطة ينبغي لنا أن ننتبه لها ، أن نعمل ونحن نوقن بالجزاء ، كثير من الناس يعملون ، يصلون ويصومون ويتصدقون بناء على أن هذا أمر الله ، وهذا طيب ولا شك أنه خير ، لكن ينبغي أن تدرك وأن تستحضر بأنك إنما تفعل هذا رجاء الثواب وخوف العقاب ، حتى تكون موقناً بالآخرة .
وقد أخذ شيخ الإسلام ـ رحمه الله من هذه الآية عبارة طيبة ، فقال : ( بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ) أخذها من قوله تعالى : (لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ ) ( السجدة :24) ، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين . أسأل الله أن يجعلني وإياكم أئمة في دين الله ، هداة لعباد الله مهتدين ، إنه جواد كريم .

الموضوع التالي


171 ـ عن أبي عمرو ، جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابي النمار ، أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر : فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة : فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذن وأقام ، فصلى ثم خطب : فقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) إلى آخر الآية : ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) ، والآية الأخرى التي في آخر الحشر : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر:18) تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ، حتى قال : ولو بشق تمرة ) فجاء ، رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) . رواه مسلم (246).

الموضوع السابق


170 ـ وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول : ( صبحكم ومساكم ) ويقول : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ويقرن بين إصبعيه ؛ السبابة والوسطى ، ويقول : ( أما بعد ؛ فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) ثم يقول : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالاً فلأهله ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي ) رواه مسلم(243) .