175- وعن أبي العباس سهل بن سعدٍ الساعدي- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:" لاُعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله في يديه، يحبُ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسولهُ" فبات الناسُ يدوكُون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلهم يرجو أن يعطاها، فقال :"أين على بن أبي طالب؟" فقيل : يا رسول الله هو يشتكي عينيه قال:" فأرسلوا إليه" فأتى به ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا لهُ، فبرأ حتى كان لم يكن به وجع فأعطاهُ الرايةُ، فقال على- رضي الله عنه-: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال:" انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يحبُ عليهم من حق الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمرِ النعم" متفق عليه [251].
 
قوله صلى الله عليه وسلم :" لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسولهُ" هذا يتضمن بشرى عامة، وبشرى خاصة، أما العامة فهي قوله:" يفتح اله على يديه" وأما الخاصة فهي قوله: " يجب الله ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه".
وخيبر مزارع وحصون لليهود، كانت نحو مائة ميل في الشمال الغربي من المدينة، وسكنها اليهود كما سكن طائفة منهم المدينة نفسها؛ لأن اليهود يقرؤون في التوراة أنه سيُبعث نبي، وسيكون مهاجره إلى المدينة، وتسمى في العهد القديم يثرب، لكنه نهى عن تسميتها يثرب، وأنه سيهاجر إلى المدينة وسيقاتل وينتصر على أعدائه ، فعلموا أن هذا حق، وذهبوا إلى المدينة وسكنوها، وسكنوا خيبر ، وكانوا يظنون أن هذا النبي سيكون من بني إسرائيل ، فلما بُعث من بني إسماعيل من العرب حسدوهم، وكفروا به، والعياذ بالله، بعد أن كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه)(البقرة: 89) وقالوا ليس هذا هو النبي الذي بُشرنا به.
وحصل منهم ما حصل من العهد مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم الخيانة، وكانوا في المدينة ثلاث قبائل : بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكلهم عاهد النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام، ولكنهم نقضوا العهد كلهم.
فهزمهم الله- والحمد لله- على يد النبي صلى الله عليه وسلم وكان آخرهم بني قريظة الذين حكم فيهم سعد بن معاذ- رضي الله عنه- بأن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى نساؤهم وذريتهم، وتغنم أموالهم، وكانوا سبعمائة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسل بقتلهم فحصدوهم عن آخرهم فهكذا اليهود أهل غدر وخيانة ونقض للعهود، منذ بُعث فيهم موسى عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، هم أغدر الناس بالعهد، وأخونهم بالأمانة، ولذلك لا يوثق منهم أبداً ؛ لا صرفاً ولا عدلاً، ومن وثق بهم ، أو وثق منهم. فإنه في الحقيقة لم يعرف سيرتهم منذ عهد قديم.
قوله صلي الله عليه وسلم :" لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ويحبه اللهُ ورسولُه" هاتان منقبتان عظيمتان.
الأولى : أن يفتح الله على يديه ؛ لأن من فتح الله على يديه نال خيراً كثيراً، فإنه إذا هدى الله به رجلاً واحداً، كان خيراً له من حمر النعم: يعني من الإبل الحمر وإنما خص الإبل الحمر؛ لأنها أغلى الأموال عند العرب.
الثانية: يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، وفي ذلك فضل لعلى بن أبي طالب - رضي الله عنه- لأن الناس في تلك الليلة جعلوا يدوكون يعني يخوضون ويتكلمون من هذا الرجل؟
فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أين علي بن أبي طالب؟" فقيل : هو يشتكي عينيه، يعني أن عينيه تؤلمه ويشتكيها، فدعا به فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع، وهذه من آيات الله عزّ وجلّ فليس هناك قطرة ولا كي وإنما هو ريق النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه يجوز للناس أن يتحدثوا في الأمر ليتفرسوا فيمن يصيبه ؛ لأن الصحابة صاروا في تلك الليلة يدوكون ليلتهم: من يحصل هذا؟ وكل واحد يقول : لعله أنا.
وفيه أيضاً دليلٌ على أن الإنسان قد يهبه الله تعالى من الفضائل ما لم يخطر له على بال ، فعلي ليس حاضراً وربما لا يكون عنده علم بأصل المسألة ومع ذلك جعل الله له هذه المنقبة ففي هذا دليلٌ على أن الإنسان قد يحرم الشيء مع ترقبه له، وقد يُعطى الشيء مع عدم خطورته على باله.
" فأعطاه الراية" الراية يعني العلم الذي يكون علماً على القوم في حال الجهاد ، لأن الناس في الجهاد يقسمون هؤلاء إلى جانب وهؤلاء إلى جانب ، وهذه القبيلة وهذه القبيلة، أو هذا الجنس من الناس كالمهاجرين مثلاً والأنصار، كل له راية أي : علم يدل عليه.
فقال علي رضي الله عنه " يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا" يعني أقاتلهم حتى يكونوا مسلمين أم ماذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم" ومل يقل له قاتلهم حتى يكونوا مثلنا، وذلك لأن الكفار لا يقاتلون على الإسلام ويرغمون عليه ، وإنما يقاتلون ليذلوا لأحكام الإسلام فيعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أو يدخلوا في الإسلام.
وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - هل هذا خاص بأهل الكتاب أي مقاتلتهم حتى يعطوا الجزية- أو أنه عام لجميع الكفار؟ فأكثر العلماء يقولون : إن الذي يقاتل حتى يعطي الجزية أو يسلم هم أهل الكتاب اليهود والنصارى، وأما غيرهم فيقاتلون حتى يسلموا ولا يقبل منهم إلا الإسلام، واستدلوا بقوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29).
والصحيح أنه عام، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسمل أخذ الجزية من مجوس هجر ، وهم ليسوا أهل كتاب كما أخرجه البخاري [252]، ودليلٌ آخر [253]: حديث بريدة بن الحصيب الذي أخرجه مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه ومن معه من المسلمين خيراً وذر في الحديث ا،ه يدعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فالجزية فإن أبوا يقاتلهم والصحيح أن هذا عام. ولذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين سأله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، نعم قاتلهم حتى يكونوا مثلنا، وإنما أرشده أن يفعل ما أمره به، وأن يمشي على رسله، حتى ينزل بساحتهم.
قوله:" على رسلك" أي لا تمسي عجلاً فتتعب أنت، ويتعب الجيش ، ويتعب من معك، ولكن على رسلك حتى تنزل بساحتهم أي يجانبهم ، قوله صلى الله عليه وسلم :" ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه" فأمره صلى الله عليه وسلم بأمرين:
الأمر الأول: الدعوة إلى الإسلام: بان يقل لهم : أسلموا إذا كانوا يعرفون معنى الإسلام ويكفي ذلك، وإن كانوا لا يعرفونه، فإنه يبين لهم أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ، أن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت.
الأمر الثاني: قال:" وأخبرهم بما يحب عليهم من حق الله تعالى فيه" وهو السمع والطاعة لأوامر الله ورسوله، لأجل أن يكون الداخل في الإسلام داخلاً على بصيرة، لأن بعض الناس يدخل في الإسلام على أنه دين ولكن لا يدري ما هو ثم إذ بينت له الشرائع ارتد والعياذ بالله، فصار كفره والثاني أعظم من كفره الأول؛ لأن الردة لا يُقر عليها صاحبها، بل يقال له: إما أن ترجع لما خرجت منه، وإما أن نقتلك.
ولهذا ينبغي لنا في هذا العصر لما كثر الكفار بيننا من نصارى وبوذيين ومشركين وغيرهم ، إذا دعوناهم إلى الإسلام أن نبين لهم الإسلام أولاً، ونشرحه شرحاً يتبين فيه الأمر، حتى يدخلوا على بصيرة، لا تكتفي بقولنا: اسلموا فقط لأنهم لا يعرفون ما يجب عليهم من حق الله تعالى في الإسلام فإذا دخلوا على بصيرة صار لنا العذر فيما بعد إذا ارتدوا أن نطلب منهم الرجوع إلى الإسلام أو نقتلهم، أما إن بين لهم إجمالاً هكذا، فإنها دعوة قاصرة، والدليل على هذا حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه - الذي نشرحه.
وفي الحديث ، في قوله صلى الله عليه وسلم :" فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" يهديه: أي يوفقه بسببك إلى الإسلام فإنه خير لك من حمر النعم يعني من الإبل الحمر، وذلك لأن الإبل الحمر عند الغرب كانت من أنفس الأموال، إن لم تكن أنفس الأموال، ففعل رضي الله عنه ونزل بساحتهم ، ودعاهم إلى الإسلام ولكنهم لم يسلموا.
ثم في النهاية كانت الغلبة - ولله الحمد - وللمسلمين، ففتح الله على يدي علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- والقصة مشهورة في كتب المغازي والسير ، ولكن الشهاد من هذا الحديث: أنه أمرهم أن يدعوهم إلى الإسلام، وأن يخبرهم بما يحب عليهم من حق الله تعالى فيه.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
ظهور آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم وهي أنه لما بصق في عيني على بن أبي طالب رضي الله عنه برىء حتى كأن لم يكن به وجع.
وفيه أيضاً آية أخرى: وهي قوله" يفتح الله علي يديه" وهي خبر غيبي، ومع ذلك فتح الله علي يديه.
وفيه أيضاً من الفوائد: أنه ينبغي نصب الرايات في الجهاد، وهي الأعلام ، وأن يُجعل لكل قوم راية معينة يعرفون بها كما سبقت الإشارة إليه.
وفيه أيضاً من الفوائد: تحري الإنسان للخير والسبق إليه لأن الصحابة جعلوا في تل الليلة يدوكون ليلتهم، يدوكون ليلتهم، يدوكون ليلتهم يعني يدوكون في ليلتهم، في منصوبة على الظرفية، يعني انهم يبحثون من يكون.
وفيه أيضاً: أن الإنسان قد يعطى الشيء من غير أن يخطر له على بال، وأنه يحرم من كان متوقعاً أن يناله هذا الشيء، لأن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - كان مريضاً في عينيه، ولا أظن أنه يخطر بباله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيعطيه الراية، ومع ذلك أدركها وفضل الله تعالى يؤتيه من يشاء والله الموفق.



250 أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة ، رقم (3267، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله،,,, رقم (2989).
251 أخرجه مسلم، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة... ، رقم (2674)
252 أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب...، رقم (3701) ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل على بن أبي طالب...، رقم (2406).
253 أخرجه البخاري، كتاب الجزية والموادعة باب الجزية مع أهل الذمة رقم (3156، 3157).