179- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال( من القوم) " قالوا : المسلمون ، فقالوا : من أنت؟ قال :" رسول الله" فرفعت إليه امرأةٌ صبياً فقالت : ألهذا حجٌ ! قال:" نعم ولك أجرٌ" رواه مسلم[262].
 
قال المؤلف - رحمه الله تعالى- فيما نقله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم ملقي ركباً بالروحاء والروحاء مكان بين مكة والمدينة، وكان هذا في حجة الوداع، فقال لهم:" من القوم؟" قالوا: المسلمون، فقالوا: فمن أنت؟ قال:" أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: لهذا حج؟ قال " نعم ولك أجر" ففي هذا الحديث من الفوائد ما ساقه المؤلف من أجله، وهو أن من أعان شخصاً على طاعة فله أجر؛ لأن هذه المرأة سوف تقوم برعاية ولدها إذا أحرم، وفي الطواف، وفي السعي ، وفي الوقوف، وكل شيء ، قال : له حج ولك أجر.
وهذا كالذي سبق فيمن جهز غازياً أو خلفه في أهله فإنه يكون له أجر الغازي.
وفي هذا الحديث من الفوائد أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عما يجهله إذا دعت الحاجة إلى ذلك ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل: "من القوم؟" يخشى أن يكونوا من العدو فيخونوا أو ويغدروا، أما إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك فلا حاجة أن تسأل عن الشخص، فتقول : من أنت؟ لأن هذا قد يكون داخلاً فيما لا يعنيك، و " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (1)لكن إذا دعت الحاجة فاسأل حتى تكون على بينة من الأمر وعلى بصيرة.
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن وصف الإنسان نفسه بالصفات الحميدة إذا لم يقصد الفخر وإنما يقصد التعريف لا بأس به؛ لأن هؤلاء الصحابة لما سئلوا: من أنتم؟ قالوا: مسلمون ، والإسلام لا شك أنه وصف مدح ، لكن إذا أخبر الإنسان به عن نفسه، فقال : أنا مسلم ، أنا مؤمن، وما أشبه ذلك لمجرد الخبر لا من أجل الافتخار فإن ذلك لا بأس به، وكذلك لو قاله على سبيل التحدث بنعمة الله فلو قال: الحمد لله الذي جعلني من المسلمين، وما أشبه ذلك فإنه لا بأس به، بل يكون محموداً إذا لم يحصل فيه محظور.
ومن فوائد هذا الحديث : أن الإنسان إذا وصف نفسه بصفة هي فيه بدون فخر ، فإنه لا يعدُ هذا من باب مدح النفس وتزكية النفس الذي نهى عنه في قوله: ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(لنجم:32).
وفيه دليلٌ أيضاً على أن الإنسان ينبغي له أن يغتنم وجود العالم؛ لأن هؤلاء القوم لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رسول الله ، جعلوا يسألونه ، فينبغي للإنسان أن يغتنم فرصة وجود العالم من أجل أن يسأله عما يشكل عليه.
ومن فوائده أيضاً: أن الصبي إذا حج به وليه فله أجر، والحج يكون للصبي لا للولي، وقد اشتهر عند عامة الناس أن الصبي يكون حجة لوالديه، وهذا لا أصل له ، بل حج الصبي له، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ، لما قالت المرأة ؟ ألهذا حج؟ قال:" نعم ولك أجر" ، فالحج له ، وليعلم أن الصبي بل كل من دون البلوغ يكتب له الأجر ولا يكتب عليه الوزر.
واستدل بعض العلماء بقوله: " نعم له حج" أنه إذا أحرم الصبي لزمه جميع لوازم الحج؛ فيلزمه الطواف ، والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ومنى، ورمي الجمرات، فليعل ما يقدر عليه ، وما لا يقدر عليه يُفعل عنه، إلا الطواف والسعى فإنه يطاف ويُسعي به.
وقال بعض أهل العلم: لا بأس أن يتحلل الصبي ولو بدون سبب؛ لأنه قد رفع عنه القلم ، وليس بمكلف ، ولا يُقال: إن نفل الحج كفرضه، لا يجوز الخروج منه، وهذا الصبي متنفل فلا يجوز له أن يخرج، لأن أصل الصبي من غير المكلفين، فلا نلزمه بشيء وهو غير مكلف ، وهذا مذهب أبي حنيفة - رحمه الله- أن الصبي لا يلزم بإتمام الحج، ولا بواجبات الحج، ولا باجتناب محظوراته، وأن ما جاء منه قُبل ، وما تخلف لا يسأل عنه، وهذا يقع كثيراً من الناس الآن، حيث يحرمون بصبيانهم، ثم يتعب الصبي ويأبى أن يكمل ويخلع إحرامه، فعلى مذهب جمهور العلماء لا بد أن نلزمه بالإتمام ، وعلى مذهب أبي حنيفة وهو الذي مال إليه صاحب الفروع رحمه الله، من أصحاب الإمام أحمد- رحمه الله- ومن تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه- رحمه الله- أنه لا يلزم لأنه ليس أهلاً للتكليف.
وفي هذا الحديث أيضاً ما يدل على أن الصبي وإن كان غير مميز فإنه يصح منه الحج، ولكن كيف تصح نيته وهو غير مميز، قال العلماء : ينوي عنه وليه بقلبه أنه أدخله في الإحرام، ويفعل وليه كل ما يعجز عنه.
وفي هذه المناسبة نودٌّ أن نبين هل يجب على من دخل في الحج أن ينوي الطواف بنية مستقلة، والسعي بنية مستقلة، والرمي كذلك، أو لا يشترك؟
هذا المسألة فيها خلاف بين العلماء ، من العلماء من قال: إذا أحرم الإنسان بالحج وطاف وسعى على النية الأولى، يعني لم يجدد نيته عند الطواف ولا عند السعي، فإن حجه صحيح ، قال تعليلاً لقوله: إن الطواف والسعي والوقوف والرمي والمبيت كلها أجزاء من عبادة فتكفي النية الأولى، كما أن الإنسان إذا صلى ونوى عند الدخول في الصلاة أنه دخل في الصلاة، فإنه لا يلزمه أن ينوي الركوع ولا السجود ولا القيام ولا القعود؛ لأنها أجزاء من العبادة، فكذلك الحج.
وهذا القول ينبغي أن يؤتى به عند الضرورة، يعني لو جاءك مُستفتٍ يقول: أنا دخلت المسجد الحرام وطفت، وفي تلك الساعة لم تكن عندي نية، فهنا ينبغي أن يفتي بأنه لا شيء عليه، وأن طوافه صحيح، أما عند السعة فينبغي أن يقال : إنك إذا نويت أحسن، وهو على كل حال لابد أن ينوي الطواف، ولكن أحياناً يغيب عن ذهنه أنه طواف الركن، أو طواف التطوع، وما أشبه ذلك، والله أعلم.


(1) رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بما الناس، رقم (3317)، وابن ماجه، كتاب الفتن، كف اللسان في الفتنة (3967).
262 أخرجه مسلم ، كتاب الحج، باب صحة حج الصبي ، وأجر من حج به، رقم (1336).