وقال تعالى(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف:29)، وقال تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) (الحجر:94) ، وقال تعالى : ( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)(لأعراف: 165)، والآيات في الباب كثيرة معلومة.
 
ثم قال المؤلف - رحمه الله - فيما ساقه من الآيات: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر)(الكهف:29) ، الحق من الله عزّ وجلّ ، من الرب الذي خلق الخلق، والذي له الحق في أن ، يوجب على عباده ما شاء ، الحق منه فيجب علينا قبوله.
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر)هذه الجملة ليست للتخيير، وأن الإنسان مخير إن شاء آمن وإن شاء كفر، ولكنها للتهديد، والدليل على هذا آخر الآية، وهو قوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29)، فمن شاء فليؤمن ؛ فله الثواب الجزيل، ومن شاء فليكفر؛ فعليه العقاب الأليم، ويكون من الظالمين كما قال تعالى: ( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة:254)، ففي هذا تهديد لمن لم يؤمن بالله عزّ وجلّ ، وأن الحق بينٌ وظاهرٌ جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من رب العالمين، فمن اهتدى فقد وفق ، نسأل الله لنا الهداية، ومن ضلّ - والعياذ بالله- فقد خُزي ، والله المستعان.
ثم قال المؤلف- رحمه الله تعالى - فيما ذكره من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ساق- رحمه الله تعالى - قوله عزّ وجلّ (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94)، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليعلم أن الخطاب الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين:
قسم خاص به وقسم له ولأمته، والأصل أنه له ولأمته ؛ لأن لأمته أسوة حسنة فيه عليه الصلاة والسلام، لكن إذا وجدت قرينة تدل على أن الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام كان خاصاً به، مثل قوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1) ، ومثل قوله تعالى: (والضُّحَى) (وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)(الضحى:1-3) ، فهذا خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام.
أما القسم القاني : فمثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكٌَ) (التحريم:1)، فهذا له ولأمته، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ)(الطلاق:1)، فهذا له ولأمته، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)(المائدة: 67)، فهذا له ولأمته، لقوله صلى الله عليه وسلم :" بلغوا عني" [280].
فهنا يقول الله عزّ وجلّ لرسوله (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ )،(الحجر:94) يعني أظهر ما تؤمر به وبيّنه، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وهذا له ولأمته، كل الأمة يجب عليها أن تصدع بما أمرها الله به؛ تأمر به الناس، وأن تصدع بما نهى الله عنه؛ تنهي عنه الناس؛ لأن النهي عن الشيء أمر بتركه )فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94) يعني لا تهتم بهم، في حالهم ولا فيما يأتي من أذاهم، يعني لا تحزن لعدم إيمانهم كما قال الله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف:6).
(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(الشعراء:3) يعني لعلك مهلك
نفسك إذا لم يؤمنوا بك، يعني لا تبالي بهم؛ بل أعرض عنهم فيما يحصل منهم من أذى، فإن العاقبة لك، وفعلاً صارت العاقبة للرسول عليه الصلاة والسلام ، صبر وظفر.
فإنه عليه الصلاة والسلام خرج من مكة مهاجراً مختفيا، يخشى على نفسه ، قد جعلت قريش لمن يأتي به وبصاحبه أبي بكر مائتين من الإبل ، عن كل واحد مائة، ولكن الله تعالى أنجاهما، وبعد مضي سنوات قليلة رجع النبي عليه الصلاة والسلام فاتحاً مكة ظافراً مظفراً، كانت له المنة على الملأ من قريش ، حتى وقف على باب الكعبة يقول :" يا معشر قريش، ما ترون إني فاعل بكم؟"[281] كلهم تحته أذلة، قالوا : خيراً . أخ كريم وابن أخ كريم، قال:" فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء. فمن عليهم عليه الصلاة والسلام بعد أن كان قادراً عليهم.
فالحاصل : أن قوله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) يشمل أمرين: أعرض عن المشركين لا تهتم بحالهم إذا لم يؤمنوا ولا تحزن عليهم، وأعرض عن المشركين فيما يحصل لك من أذى ، فإنه سوف تكون العاقبة لك، وهذا هو الواقع، ولهذا قال بعد الآية نفسها: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ) (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:95-99)
وتأمل كيف أمر الله تعالى بتسبيحه بحمده بعد أن قال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) (الحجر97) لأن المقام هنا مقام يحتاج إلى تنزيه الربّ عزّ وجلّ وحمده، من هذه الضائقة التي تصيب النبي عليه الصلاة والسلام من قريش، يعني نزهه عن كل ما لا يليق به، واعلم أن الذي أجراه الله جل وعلا فهو في غاية الحكمة، هو كذلك، فإنه صار في غاية الحكمة وفي غاية الرحمة التي يُحمد عليهما عزّ وجلّ.
ثم قال في آخر ما ساقه من الآيات : قال الله عزّ وجلّ :( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:165)، هذه هي قصة القرية التي أشرنا إليها من قبل، وهي قرية على البحر حرّم الله عليهم أن يصطادوا السمك يوم السبت وإبتلاهم عز وجل فصار السمك السبت يأتي بكثرة شُرعاً على سطح الماء، وفي غير يوم السبت لا يأتي، فطال عليهم الأمد فقالوا: كيف نترك هذا السمك ، فتحيلوا بحيلة لم تنفعهم شيئاً، فوضعوا شبكاً في يوم الجمعة فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وقعن في هذا الشبك، فإذا صار يوم الأحد أخذوا هذه الحيتان.
فكان النكال من الله - عزّ وجلّ- أن قال لهم ( كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) قال لهم قولاً قدرياً : كونوا قردة خاسئين، فأصبحوا قردة، ولو قال : كونوا حميراً لكن قال: كونوا قردة؛ لأن القرد أشبه ما يكون بالإنسان ، وفعلهم الخبيث أشبه بالحلال لأنه حيلة، فالذي يراهم ظاهرياً يقول ما صادوا يوم السبت ، بل وضعوا الشبك يوم الجمعة وأخذوها يوم الأحد فصورة ذلك صورة حلال لكنه حرام، فصارت العقوبة مناسبة تماماً للعمل.
وفي هذا قاعدة ذكرها الله - عزّ وجلّ- في كتابه أن الجزاء من جنس العمل، فقال : (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ)(العنكبوت: 40) ، كل إنسان يؤخذ بمثل جريمته، فهؤلاء قبل لهم كونوا قردة خاسئين فأصبحوا قردة يتعاوون والعياذ بالله في الآسواق.
وعلى الجانب الآخر قال تعالى: ( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ )(لأعراف: 165) وهم انقسموا ثلاثة أقسام: قسم فعل الحيلة، وقسم سكت، وقسم نهى، وكان الذين سكتوا يقولون للذين ينهون عن السوء( لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً )(لأعراف: 164) ، يعني اتركوهم ، هؤلاء مُهلكون، لا تعظوهم، لا تنفع فيهم الموعظة (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)(لأعراف:164)، قالوا يعني دعونا نستفيد فائدتين المعذرة إلى الله بأن يكون لنا عذر عند الله عزّ وجلّ، ولعلهم يتقون، كما قال الله تعالى في فرعون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طـه:44)، فهنا قال (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ولكن سكت الله عزّ وجلّ عن هذه الطائفة الثالثة.
قال الله تعالى (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (لأعراف:165) ، فاختلف العلماء : هل الطائفة الساكتة أخذت بالعذاب أم أنها نجت؟ والذي ينبغي علينا أن نسكت كما سكت الله ، نقول : أما التي نهت فقد نجت، وأما التي وقعت في الحرام فقط هلكت وأخذت بالعذاب، وأما الساكتة فقط سكت الله عنها ويسعنا ما في كتاب الله عزّ وجلَّ.



280 تقدم تخريجه ص (348).
281 أخرجه ابن إسحاق كما في سيرة أبن هشام (4/78) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/141- 142).

الموضوع التالي


186- الرابع : عن أبي الوليد عُبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسرِ ، والمنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهلهُ إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لؤمة لائم" متفق عليه[282]. " المنشط والمكره بفتح ميمهما: أي في السهلِ والصعبِ." والأثرةُ": الاختصاص بالمشترك، وقد سبق بيانها. " بواحا" بفتح الباء الموحدة بعدها واوٌ ثم ألفٌ ثم حاءٌ مهملةٌ: أي ظاهراً لا يحتملُ تاويلاً.