187- الخامس عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله لعيه وسلم قال: " مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً " رواه البخاري" [289].
 
قال المؤلف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن النعمان بن بشير الإنصاري رضي الله عنهما ، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" مثل القائم في حدود الله والواقع فيها" القائم فيها يعني الذي استقام على دين الله فقام بالواجب ، وترك المحرم، والواقع فيها أي في حدود الله، أي الفاعل للمحرم أو التارك للواجب، كمثل قوم استهوا على سفينة يعني ضربوا سهماً، وهو ما يسمى بالقرعة، أيهم يكون الأعلى؟"فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء" يعني إذا طلبوا الماء ليشربوا منه " مروا على من فوقهم" يعني الذين في أعلاها؛ لأن الماء لا يقدر عليه إلا من فوق، " فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا" يعني لو نخرق خرقاً في مكاننا نستقي منه، حتى لا نؤذي من فوقنا، هكذا قدروا وأرادوا.
قال النبي عليه الصلاة والسلام:" فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً" لأنهم إذا خرقوا خرقاً في أسفل السفينة دخل الماء، ثم أغرق السفينة " وإن أخذوا على أيديهم" ومنعوهم من ذلك " نجوا ونجوا جميعاً"، يعني نجا هؤلاء وهؤلاء.
وهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسمل هو من الأمثال التي لها مغزّى عظيم ومعنى عال، فالناس ف يدين الله كالذين في سفينة في لجة النهر، فهم تتقاذفهم الأمواج، ولابد أن يكون بعضهم إذا كانوا كثيرين في الأسفل وبعضهم في أعلى، حتى تتوازن حمولة السفينة وقد لا يضيق بعضهم بعض، وفيه أن هذه السفينة المشتركة بين هؤلاء القوم إذا أراد أحد منهم أن يخربها فإنه لابد أن يمسكوا على يديه، وأن يأخذوا على يديه لينجوا جميعاً، فإن لم يفعلوا هلكوا جميعاً، هكذا دين الله، إذا أخذ العقلاء وأهل العلم والدين على الجهال والسفهاء نجوا جميعاً وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، كما قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال:25).
وفي هذا المثل دليلٌ على أنه ينبغي لمعلم الناس ا، يضرب لهم الأمثال ، ليقرب لهم المعقول بصورة المحسوس، قال الله تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)(العنكبوت:43)، وكم من إنسان تشح له المعنى شرحاً كثيراً وتردده عليه فلا يفهم ، فإذا ضربت له مثلاً بشيء محسوس يفهمه ويعرفه.
وانظر إلى المثل العجيب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأعراب، صاحب بادية إبل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا رسول الله ، إن زوجتي ولدت غلاماً أسود- يعني وأنا أبيض والمرأة بيضاء. من أين جاءنا هذا الأسود؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" هل لك من إبل؟ قال : نعم قال: " ما ألوانها؟" قال: حمر. قال :" هل فيها من أورق؟" يعني أسود ببياض.قال: نعم. قال" من أين جاءها ذلك؟" قال: لعله نزعه عرق ، يعني ربما يكون له أجداد أو جدات سابقة لونها هكذا، فنزعة هذا العرق ، قال: " فابنك هذا لعله نزعه عرق" [290]، لعل واحداً من أجداده أو جداته أو أخواله أو آبائه لونه أسود فجاء الولد عليه ، فاقتنع الأعرابي تمام الاقتناع، لو جاءه النبي عليه الصلاة والسلام يشرح له شرحاً فهو اعرابي لا يعرف ، لكن أتاه بمثال من حياته التي يعيشها ، فانطلق وهو مقتنع.
وهكذا ينبغي لطالب العلم، بل ينبغي للمعلم أن يقرب المعاني المعقولة لأذهان الناس بضرب الأمثال المحسوسة ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي هذا الحديث إثبات القرعة وأنها جائزة. وقد وردت الآيات والأحاديث بالقرعة في موضعين من كتاب الله ، في ستة مواضع من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الموضعان من كتاب الله فالموضع الأول في سورة آل عمران: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران:44)، والموضع الثاني في سورة الصافات (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الصافات:139-144).
يونس عليه السلام أحد الأنبياء ركب مع قوم في سفينة فضاقت به، وقالوا: إن بقينا كلنا على طهرها هلكنا وغرقت، لابد أن ننزل بعضنا في البحر . فمن ننزل؟ أول راكب، أم أكبر راكب، أم أكبر بدناً؟ فعملوا قرعة، فصارت القرعة على جماعة منهم يونس، أو هو وحده؛ لأن الآية تقول (نساهم وكان من : إذا معه ناس ، نزلوهم ، والذين معه الله أعلم بهم لا نعرف ماذا صار لهم.
أما هو فالتقمه حوت عظيم، أي ابتلعه بلعاً دون أن يعلكه فصار في بطن الحوت، فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلفظه الحوت على سيف البحر، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين( يقطين) قال العلماء : إنها قرع النجد. قَرع النجد لين وأوراقه لينة كالإبريسم ، ومن خصائصه أنه لا يقع عليه الذباب فأنبت الله عليه شجرة من يقطين حتى ترعرع بعد أن بقي في بطن الحوت، ثم أنجاه الله عزّ وجلّ.
والقرعة من الأمور المشروعة الثابتة بالكتاب والسنة وقد ذكر أبن رجب رحمه الله في كتابه القواعد الفقهية، قاعدة في الأشياء التي تستعمل فيها القرعة ، من أول الفقه إلى آخره.


289 أخرجه البخاري، كتاب الشركة، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه، رقم (2493).
290 أخرجه البخاري ، كتاب الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، رقم(5305) ومسلم، كتاب اللعان، رقم(1500).

الموضوع التالي


188-السادس : عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية حذيفة رضية الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برى، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع" قالوا : يا رسول الله ، ألا نقاتلهم؟ قال:" لا ،ما أقاموا فيكم الصلاة" رواه مسلم [291]. معناه : من كره بقلبه ولم يستطع إنكارا بيد ولا لسان فقد برى من الإثم، وأدى وظيفتهُ، ومن أنكر بحسب طاقته فقد سلم من هذه المعصية، ومن رضي بفعلهم وتابعهم، فهو العاصي.

الموضوع السابق


186- الرابع : عن أبي الوليد عُبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسرِ ، والمنشط والمكره، وعلى أثره علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهلهُ إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لؤمة لائم" متفق عليه[282]. " المنشط والمكره بفتح ميمهما: أي في السهلِ والصعبِ." والأثرةُ": الاختصاص بالمشترك، وقد سبق بيانها. " بواحا" بفتح الباء الموحدة بعدها واوٌ ثم ألفٌ ثم حاءٌ مهملةٌ: أي ظاهراً لا يحتملُ تاويلاً.