25- باب الأمر بأداء الأمانة قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(النساء:58)
 
قال المؤلف رحمه الله - : باب الأمر بأداء الأمانة.
الأمانة : تطلق على معان متعددة، منها ما ائتمنه الله على عباده من العبادات التي كلفهم بها ، فإنها أمانة اتئمن الله عليها العباد.
ومنها : الأمانة المالية، وهي الودائع التي تعطى للإنسان ليحفظها لأهلها ، وكذلك الأموال الأخرى التي تكون بيد الإنسان، لمصلحته أو مصلحة مالكها، وذلك أن الأمانة التي بيد الإنسان ؛ إما أن تكون لمصلحة مالكها ، أو لمصلحة من هي بيده ، أو لمصلحتهما جميعاً .
فأما الأول: فالوديعة؛ الوديعة تجعلها عند شخص ، تقول مثلاً : هذه ساعتي عندك احفظها لي، أو هذه دراهم احفظها لي وما أشبه هذا ، فهذه وديعة بقيت عنده لمصلحة مالكها.
وأما التي لمصلحة من هي بيده: فالعارية يعطيك شخص شيئاً يعيرك إياه من إناء ، أو فراش، أو ساعة، أو سيارة، فهذه بقيت في يدك لمصلحتك.
أما التي لمصلحة مالكها ومن هي بيده: فالعينُ المستأجرة، فهذه مصلحتها للجميع؛ استأجرت مني سيارة ، وأخذتها ، فأنت تنتفع بها في قضاء حاجتك، وأنا أنتفع بالأجرة. وكذلك البيت والدكان وما أشبه ذلك. كل هذه من الأمانات.
ومن الأمانة أيضاً: أمانة الولاية وهي أعظمها مسؤولية، الولاية العامة والولايات الخاصة، فالسلطان مثلاً الرئيس الأعلى في الدولة، أمين على الأمة كلها ، على مصالحها الدينية ومصالحها الدنيوية، على أموالها التي تكون في بيت الماس، لا يبذرها ، ولا ينفقها في غير مصلحة المسلمين وما أشبه ذلك.
وهناك أمانات أخرى دونها، كأمانة الوزير مثلاً في وزارته، وأمانة الأمير في منطقته ، وأمانة القاضي في عمله، وأمانة الإنسان في أهله، المهم أن الأمانة باب واسعٌ جداً وأصلها أمران:
أمانة في حقوق الله : وهى أمانة العبد في عبادات الله عزّ وجلّ.
وأمانة في حقوق البشر" وهي كثيرة جداً ، وقد أشرنا إلى شيء منها، وكلها يؤمر الإنسان بأدائها: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ، تأمل هذه الصيغة (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ) صيغة قوة وسلطان لم يقل: أدوا الأمانة ، ولم يقل : إني آمركم ولكن قال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ ) بأمركم بألوهيته العظيمة، يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، فأقام الخطاب مقام الغائب تعظيماً لهذا المقام ولهذا الأمر ، وهذا كقول السلطان - ولله المثل الأعلى - إن الأمير يأمركم ، أن الملك يأمركم ، فذها أبلغ وأقوى من قوله : إني آمركم كما قال ذلك علماء البلاغة.
(أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)ومن لازم الأمر بأداء الأمانة إلى أهلها الأمر بأداء الأمانة إلى أهلها ؛ الأمر بحفظها ؛ لأنه لا يمكن أداؤها إلى أهلها إلا بحفظها . وحفظها إلا يتعدى فيها ولا يفرك، بل يحفظها حفظاً تاماً ليس فيه تعدّ ولا تفريط، حتى يؤديها إلى أهلها .
وأداء الأمانة من علامات الإيمان: فكلما وجدت الإنسان أميناً فيما يؤتمن عليه ، مؤدياً له على الوجه الأكمل ؛ فاعلم أنه قوي الإيمان . وكلما وجدته خائناً ؛ فاعمل أنه ضعيف الإيمان.
ومن الأمانات : ما يكون بين الرجل وصاحبه من الأمور الخاصة التي لا يحب أن يطلع عليها أحد، فإنه لا يجوز لصاحبه أن يخبر بها، فلو استأمنك على حديث حدثك به ، وقال لك : هذا أمانة، فإنه لا يحلّ لك أن تخبر به أحداً من الناس، ولو كان أقرب الناس إليك. سواء أوصاك بأن لا تخبر به أحداً، أو عُلم من قرائن الأحوال أنه لا يحب أن يطلع عليه أحد .ولهذا قال العلماء: إذا حدثك الرجل بحديث والتفت فهذه أمانة، لماذا؟ لأنه كونه يلتفت ، فإنه يخشى بذلك أن يسمع أحدٌ ، إذاً فهو لا يحب أن يطلع عليه أحد، فإذا ائتمنك الإنسان على حديث ، فإنه لا يجوز لك أن تفشيه.
ومن ذلك أيضاً : ما يكون بين الرجل وزوجته من الأشياء الخاصة ، فإن شر الناس منزلة عند الله تعالى يوم القيامة، الجل يفضي على امرأته وتفضي إليه، ثم يتحدث بما جرى بينهما، فلا يجوز للإنسان أن يتحدث بما جرى بينه وبين زوجته.
وكثيرٌ من الشباب السفهاء يتفكهون في المجالس بذكر تلك الخصوصيات ، يقول الواحد منهم: فعلت بامرأتي كذا وكذا، من الأمور التي لا تحب هي أن يطلع عليها أحد. وكذلك كل إنسان عاقل له ذوقٌ سليم، لا يحب أن يطلع أحد علي ما جرى بينه وبين زوجته.
إذاً علينا أن نحافظ على الأمانات، وأول شيء أن نحافظ على الأمانات التي بيننا وبين ربنا، لأن حقّ ربنا أعظم الحقوق علينا ، ثم بعد ذلك ما يكون من حقوق الخلق الأولى فالأولى.
( إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) فأثنى الله عزّ وجلّ على ما يعظنا به من الأوامر التي يريد منا فعلها ، والنواهي التي يريد منا تركها، ثم ختم الآية بقوله:( إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)(النساء:58)، سميعاً لما تقولون، بصيراً بما تفعلون ، وختم الآية بهذين الاسمين الكريمين المتضمنين لشامل سمع الله وبصره يقتضي التهديد، فهو يهدد عزّ وجلّ من لم يقم بأداء الأمانات إلى أهلها ، والله الموفق.

الموضوع السابق


198- وعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة- رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: " يؤتى بالرجل يوم القيامة فليقي في النار ، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدورُ الحمارُ في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان مالك ؟ ألم تك تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : بلى كنت أمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه" متفق عليه .(1) قولهُ" تندلقُ" هو بالدلٍ المهملة ، ومعناه تخرجُ و " الأقتابُ " : الأمعاءُ، واحدُها قتب.