219- وعن أم سلمة- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنما أنا بشرٌ ، وإنكم تختصمون إلى ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو ما أسمعُ، فمن قضيت له بحقٌ أخيه فإنما أقطعُ لهُ قطعة من النارِ" متفق عليه [349]. " ألحن" أي : أعلم .
 
ذكر المؤلف - رحمه الله - باب تحريم الظلم ووجوب رد المظالم إلى أهلها عن أم سلمة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما أنا بشرٌ مثلكم ، وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أو يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار".
ففي هذا الحديث دليلٌ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا، ليس ملاكاً من الملائكة ، بل هو بشر يعتريه ما يعتري البشر بمقتضى الطبيعة البشرية ، فهو صلى الله عليه وسلم يجوع ويعطش، ويبرد ويحتر، وينام ويستيقظ، ويأكل ويشرب، ويذكر وينسى، ويعلم ويجهل بعض الشي كالبشر تماماً ، يقول صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشرٌ مثلكم".
وهكذا أمره الله عزّ وجلّ أن يعلن للملأ فيقول:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(الكهف:110) ، فلست إلها يُعبد ، ولا رباً ينفع ويضر، بل عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
وبهذا تنقطع جميع شيه الذين يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم ممن يدعونهُ، أو يعبدونه، أو يؤملونه لكشف الضر، أو يؤملونه لجلب الخير، فإنه عليه الصلاة والسلام لا يملك ذلك (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (إِلا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ)(الجـن:21-23)لو أراد الله أن يصيبني بسوء ما أجارني منه أحد؛ إلا بلاغاً من الله ورسالاته.
وفي قوله: " إنما أنا بشر مثلكم" تمهيد لقوله " وإنكم تختصمون إلي" يعني فإذا كنت بشراً مثلكم فإني لا أعلم من المحق منكم ومن المبطل " تختصمون إلي": يعني تتحاكمون إلى في الحصومة، فيكون بعضكم ألحن من البعض الآخر في الحجة، أي أفصح وأقوى كلاماً، يقال: فلان حجيج وفلان ذو جدل، يقوى على غيره في الحجة، كما قال الله تعالى: ( فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ)(صّ: 23) أي غلبني في الخطاب والمخاصمة، فهكذا هنا ألحن يعني أبين وأفصح وأظهر.
وهذا مشاهد، فقد تجد اثنين يتحاكمان إلي القاضي؛ أحدهما يكون عنده لسان وعنده بيان وحجة وقوة جدل، والثاني دون ذلك وإن كان الحق معه، فيحكم القاضي للأول ، ولهذا قال :" وإنما أٌقضي بنحو ما أسمع" وفي قوله :" أقضي بنحو ما أسمع" فسحة كبيرة للقضاة ، وأنهم لا يكلفون بشيء غاب عنهم ، بل يقضون حسب البيانات التي بين أيديهم ، فإن أخطئوا فلهم أجر، وأن أصابوا فلهم أجران، ولا يكلفون ما وراء ذلك ، بل ولا يحل لهم أن يحكموا بخلاف الظاهر ؛ لأنهم لو حكموا بخلاف الظاهر لأدى ذلك إلى الفوضى، وأدى ذلك إلى الاشتباه وإلى التهمة، ولقيل القاضي يحكم بخلاف الظاهر لسبب من الأسباب.
لهذا كان الواجب على القاضي أن يحكم بالظاهر، والباطن يتولاه الله عزّ وجلّ، فلو ادّعى شخص على آخر بمائة ريال وأتى المدعي بشهود اثنين، فعلى القاضي أن يحكم بثبوت المائة في ذمة المدعى عليه، وإن كان يشتبه في الشهود، إلا أنه في حال الاشتباه يجب أن يتحرى ، لكن إذا لم يوجد قدح ظاهر فإنه يجب عليه أن يحكم ، وإن غلب على ظنه أن الأمر بخلاف ذلك، لقوله :" إنما أقضي بنحو ما أسمع".
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم توعد من قُضي له بغير حق فقال:" فمن قضيت له بحق اخيه فإنما أقطع له قطعة من النار" يعني أن حُكم الحاكم لا يبيح الحرام، فلو أن الحاكم حكم للمبطل بمقتضى ظاهر الدعوى ، فإن ذلك لا يحل له ما حكم له به، بل إنه يزداد إثماً، لأنه توصل إلى الباطل بطريق باطلة، فيكون أعظم ممن أخذه بغير هذه الطريق.
وفي هذا الحديث التحذير الشديد من حكم الحاكم بغير ما بين يديه من الوثائق، مهما كان الأمر ، ولو كان أقرب قريب لك، وأختلق العلماء رحمهم الله : هل يجوز للحاكم أن يحكم بعمله أم لا؟ فقيل: لا يجوز؛ لأنه قال :" فأقضي له بنحو ما أسمع" و لأنه لو قضى بعلمه لأدى ذلك إلى التهمة؛ لأن العلم ليس شيئاً ظاهراً يعرفه الناس حتى يحكم له به، وقال بعض العلماء : بل يحكم بعلمه ، وقال آخرون: بل يتوقف إذا وصلت البينة إلى ما يخالف علمه.
والأصح أنه لا يحكم بعلمه إلا في مسائل خاصة، ومثال ذلك إذا حكم بعلمه بمقتضى حجة المتخاصمين في مجلس الحكم، فمثلاً إذا تحاكم شخصان فأقر أحدهما بالحق، ثم مع المداولة والأخذ والرد أنكر ما أقرّ به أولاً، فهنا للقاضي أن يحكم بعلمه؛ لأنه علمه في مجلس الحكم.
ومثال آخر: إذا كان مشتهراً ، مثل أن يشتهر أن هذا المُلك وقف عام للمسلمين، أو يشتهر أنه ملك فلان، ويشتهر ذلك بين الناس، فهنا له أن يحكم بعلمه؛ لأن التهمة في هذه الحال منتفية، ولا يتهم القاضي بشيء، ولا يمكن أن يتجرأ أحد للحكم بعلمه وهو خاطئ بناء على أنه أمر مشهور.
والقول الصحيح في هذا هو التفصيل ، وإلا فإن الواجب أن يكون القضاء على حسب الظاهر لا على حسب علم القاضي.
ولكن إذا جاء الشيء على خلاف علمه تحول المسألة إلى قاضٍ آخر، ويكون هو شاهداً من الشهود، مثل أن يدعي شخص على آخر بمائة ريال فينكر المدعى عليه والقاضي عنده علم بثبوت المائة على المدعى عليه ، فلا يحكم هنا بعلمه ولا يحكم بخلاف علمه، بل يقول : أحولها على قاضٍ آخر وأنا لك أيها المدعي شاهد، فتحول القضية على قاضٍ آخر، ثم يكون القاضي هذا شهاداً ، فيحكم بيمين المدعى وشهادة القاضي.


349 تقدم تخريجه ص (120)