229- وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل . وهو يحب أن يعمل به ، خشية أن يعمل به الناسُ فيُفرض عليهم" متفقٌ عليه [367] 230- وعنهما رضي الله عنها قالت: نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم فقالوا: إنك تواصل ؟ قال : إني لست كهيئتكم ، إني أبيتُ يُطعمُني ربي ويسقينى " متفق عليه[368]. معناهُ يجعلُ في قوة من أكل وشرب.
 
قال المؤلف رحمه الله تعالى - فيما نقله عن عائشة - رضي الله عنها - في باب الرفق بالمسلمين والشفقة عليهم ، قالت عائشة - رضي الله عنها -: " إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يفعله؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم". قولها :" إن كان" " إن" هذه مخففة من الثقيلة ، وأصلها " إنّ" ، ويقول النحويون : إن اسمها محذوف ويسمونه ضمير الشأن، وجملة ( كان ليدع) خيرها. فالجملة هنا ثبوتية وليست سلبية. والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله ، لئلا يعمل به الناس، فيفرض عليهم ، فيشق عليهم.
ومن ذلك ما فعله في رمضان عليه الصلاة والسلام. صلى في رمضان ذات ليلة، فعلم به أُناسٌ من الصحابة، فاجتمعوا إليه وصلوا معه، وفي الليلة الثانية صلوا أكثر، وفي الثالثة أكثر وأكثر، ثم ترك الصلاة في المسجد، فقال عليه الصلاة والسلام:" أما بعد، فإنه لم يخف علىّ مكانكم" يعني ما جرى منهم من الاجتماع " ولكني كرهت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها [369]" فترك هذا القيام جماعة خوفاً من أن يفرض على الأمة وهذا من شفقته صلى الله عليه وسلم ، وكان يقول: لو لا أن أشق على أمتي لفعلت كذا وكذا، أو لآمرت بكذا وكذا، مثل قوله :" لولا أن أشق على أمتي لأمرته بالسواك عند كل صلاة[370].
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم حين تأخر في صلاة العشاء حتى ذهب عامة الليل ، فقال : " إنه لوقتها"[371] يعني آخر الوقت. ثم قال :" لولا أن أشق على أمتي" فهو عليه الصلاة والسلام كان يدع العمل ويدع الأمر بالعمل ؛ خوفاً من أن يشق على الأمة.
ومن ذلك أيضاً ما روته عائشة رضي الله عنها - أنه نهاهم عن الوصال رحمة بهم، يعني نهى الصحابة عن الوصال. والوصال يعني أن يصل الإنسان يومين فأكثر في الصيام من غير فطر، يعني يصوم الليل والنهار يومين أو ثلاثة أو أكثر، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكنهم رضي الله عنهم فهموا أنه نهاهم رحمة بهم لا كراهة للعمل، فواصلوا ثم واصلوا حتى هل شهر شوال، فقال صلى الله عليه وسلم :" لو تأخر الهلال لزدتكم"[372] يعني لأبقيتكم تواصلون ، قال ذلك تنكيلاً لهم ، حتى يعرفوا ألم الجوع والعطش ، ويكفوا عن الوصال من أنفسهم.
الحاصل أنه نهاهم عن الوصال رحمة بهم . فقالوا : إنك تواصل ونحن نقتدي بك . فقال: " إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقينى" يعني أنه عليه الصلاة والسلام ليس كالأمة، بل هو يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، ومعنى ذلك أنه عليه الصلاة والسلام يتهجد بالليل ، ويخلو بالله عزّ وجلّ بذكره ، وقراءة كلامه، وغير ذلك مما يغنيه عن الأكل والشرب، لأن الإنسان إذا اشتغل بالشيء نسي الأكل والشرب، خصوصاً إذا كان الشيء مما يحبه ويرضاه، ولهذا قال الشاعر في محبوبته:
لها أحــاديــث من ذكــراك تشعلهــا
عــن الشـراب وتلهيهــا عـن الــزاد
يعني أنها إذا قعدت تتحدث عن هذا الرجل تكثر من ذكره حتى يلهيها ذلك عن الطعام والشراب، وهو أمر واقع واضح . حتى إن الإنسان قد يكون في الأشغال يشتغل بها، فيلهو عن الأكل والشرب، مثل طالب العلم الذي يكون منهوماً بالعلم شغوفاً به، ربما يبقى ي مكتبته يطالع من الصباح إلى المساء ، فينسى الأكل والشرب ، ينسى الغداء والعشاء ، وربما ينسي النوم، وكذلك طالب الدنيا منهوم لا يشبع، ربما يبقى في دفاتره وحساباته فينشغل عن الأكل والشرب.
ويذكر أن رجلاً غنياً كان يشتغل بحساباته وبكتاباته وماله وله زوجة، وكان له جار فقير متزوج، وكانوا يشعرون بأن هذا الجار الفقير يعاشر زوجته المعروف ، فغارت زوجة الغني؛ لأن الغني غافل عنها ، فقالت له: ألا تنظر إلى جارنا يعاشر زوجته بالمعروف، ويستأنس مع أهله، ففطن الرجل الغني لهذا ، فدعا الرجل الفقير وقال له : إنك رجلٌ فقيرٌ تحتاج على المال، وأنا سأعطيك مالاً تتجر به، فأعطاه المال يتجر به، فانشغل به الفقير عن اهله، وصال لا يعاشرهم ولا يؤنسهم ، فصار مثل التاجر.
فالإنسان إذا انشغل بالشيء المحبوب إليه أنساه كلّ شيء ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :" إني ابيت عند ربي يطعمني ويسقين" فلست كهيئتكم، وما زعمه بعض أهل العلم من أن المراد بالإطعام والإسقاء، الإطعام من الجنة والإسقاء من الجنة فليس بصحيح ؛ لأنه لو طعم طعاماً حسياً وشرب شراباً حسياً، لم يكن واصلاً، وإنما المراد بالطعام والسقي ما يشتغل به صلى الله عليه وسلم من ذكر الله بقلبه ولسانه وجوارحه.
والحاصل : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل وينهى أمته على الوصال رحمة بهم، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


367 أخرجه البخاري ، كتاب التهجد ، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، رقم (1128) ، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب صلاة الضحى، رقم (718)
363 أخرجه البخاري ، كتاب الصوم ، باب الوصال ، رقم (1964) ومسلم ، كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم ، رقم (1105)
369 أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء..، رقم (924)، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في قيام رمضان، رقم (761)
370 أخرجه البخاري، كتاب الجمعة ، باب السواك يوم الجمعة، رقم (887)، ومسلم، كتاب الطهارة ، باب السواك رقم (252).
371 أخرجه مسلم ، كتاب المساجد ، باب وقت العشاء وتأخيرها ، رقم (638)
372 أخرجه البخاري ، كتاب الصوم، باب التنكيل لمن أكثر الوصال، رقم (1965) ومسلم ، كتاب الصيام ، باب النهي عن الوصال ، رقم (1103).

الموضوع السابق


226- وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قدم ناسٌ من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:" أتقبلون صبيانكم؟ فقال :" نعم" قالوا : لكنا والله ما نقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أو أملك إن كان الله نزع من قلوبكم الرحمة؟" متفق عليه[361]. 227- وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لا يرحم لا يرحم الناس لا يرحمه الله " متفق عليه [362]. 228- وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا صلى أحدكم للناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه ، فليطول ما شاء " متفق عليه وفي رواية :" وذا الحاجة"[363].