30 ـ باب الشفاعة قال الله تعالى : ( مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) [النساء: 85] . 1/246 ـ وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجةٍ أقبل على جلسائه فقال : (( اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب )) متفق عليه (11) . وفي رواية : (( ما شاء )) . 2/ 247 ـ وعن بن عباس رضي الله عنهما في قصة بريرة وزوجها . قال : قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : (( لو راجعتِهِ ؟ )) قالت : يا رسول الله ، تأمرني ؟ قال : (( إنما أشفع )) قالت : لا حاجة لي فيه )) رواه البخاري (12) .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ : باب الشفاعة .
والشفاعة : هي التوسط للغير ؛ لجلب منفعة أو دفع مضرة .
مثال الأول : أن تتوسط لشخص عند آخر في أن يساعده في أمر من الأمور
ومثال الثاني : أن تشفع لشخص عند آخر في أن يسامحه ويعفو عن مظلمته ، حتى يندفع عنه الضرر .
ومثال ذلك في أيام الآخرة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الموقف ليُقضى بينهم ، حين يصيبهم من الكرب والغم ما لا يطيقون ، فهذه شفاعة في دفع مضرة .
ومثالها في جلب منفعة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة .
والمراد بالشفاعة في كلام المؤلف : الشفاعة في الدنيا ؛ وهي أن يشفع الإنسان لشخص عند آخر ؛ يتوسط له بجب المنفعة له أو دفع المضرة عنه .
والشفاعة أقسام :
القسم الأول : شفاعة محرمة لا تجوز ، وهي أن يشفع لشخص وجب عليه الحدّ بعد أن يصل إلى الإمام ، فإن هذه الشفاعة محرمة لا تجوز ؛ مثال ذلك : رجل وجب عليه حدّ في قطع يده في السرقة ، فلما وصلت إلى الإمام أو نائب الإمام ؛ أراد إنسان أن يشفع لهذا السارق ألا تقطع يده ، فهذا حرام أنكره النبي عليه الصلاة والسلام إنكاراً عظيماً .
وذلك حينما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تقطع يد المرأة المخزومية ، امرأة من بني مخزوم من أشراف قبائل العرب ، كانت تستعير الشيء ثم تجحده ، أي تستعيره لتنتفع به ثم تنكر بعد ذلك أنها استعارت شيئاً ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها ؛ فاهتمت لذلك قريش ، قالوا : امرأة من بني مخزوم وتقطع يدها ؟ هذا عار كبير ، من يشفع لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأوا أن أقرب الناس لذلك أسامة بن زيد بن الحارثة .
وأسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن زيد بن حارثة عبدٌ أهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ، ثم أعتقه وكان يحبه عليه الصلاة والسلام ، ويحب ابنه أسامة ، فذهب أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهذه المرأة ألا تقطع يدها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (( أتشفع في حد من حدود الله ؟))
قال ذلك إنكاراً عليه ، ثم قام فخطب الناس وقال : (( أيها الناس ؛ إنما أهلك من كان قبلكم ؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله ـ يعني أقسم بالله ـ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ؛ لقطعت يدها )) ( 12 ) .
وهذه المرأة المخزومية دون فاطمة شرفاً ونسباً ، ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قال :( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ؛ لقطعت يدها )) لسدّ باب الشفاعة والوساطة في الحدود إذا بلغت الإمام .
وقال عليه الصلاة والسلام : (( من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ؛ فقد ضادِّ الله في أمره )) ( 14 ) .
وقال صلى اله عليه وسلم : (( إذا بلغت الحدود السلطان ؛ فلعن الله الشافع والمشفع )) ( 15) .
ولما سرق رداء صفوان بن أمية وكان قد توسده في المسجد ، فجاء رجل فسرقه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يد السارق ـ انظر ماذا سرق ؟ سرق رداء ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده ـ فقال : يا رسول الله ؛ أنا لا أريد ردائي ، يعني أنه رحم هذا السارق وشفع فيه ألا تقطع يده ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( هلاّ كان ذلك قبل أن تأتيني به )) ( 16 ) .
يعني لو عفوت عنه قبل أن تأتيني به ، لكان ذلك لك ، لكن إذا بلغت الحدود السلطان ؛ فلابد من تنفيذها ، وتحرم فيها الشفاعة .
القسم الثاني : أن يشفع في شيء محرم ، مثل أن يشفع لإنسان معتدٍ على أخيه ، أعرف مثلاً أن هذا الرجل يريد أن يخطب امرأة مخطوبة من قبل ، والمرأة المخطوبة لا يحل لأحد خطبتها ، فذهب رجل ثان إلى شخص وقال : يا فلان أحب أن تشفع لي عند والد هذه المرأة يزوجنيها ، وهو يعلم أنها مخطوبة ، فهنا لا يحل له أن يشفع؛ لأن هذه شفاعة في محرم .
والشفاعة في المحرم تعاون على الإثم والعدوان ، وقد قال الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) [المائدة: 2] .
ومن ذلك أيضاً أن يأتي رجل لشخص فيقول : يا فلان ؛ أنا أريد أن أشتري دخاناً من فلان وقد سُمْتُه بكذا وكذا ، وأبى عليّ إلا بكذا وكذا أكثر مما سمتُه به ، فأرجوك أن تشفع لي عنده ليبيعه عليّ بهذا السعر الرخيص ، فهنا لا تجوز الشفاعة ؛ لأن هذه إعانة على الإثم والعدوان .
القسم الثالث : الشفاعة في شيء مباح فهذه لا بأس بها ، ويكون للإنسان فيها أجر ، مثل أن يأتي شخص لآخر فيسوم منه بيتاً ويقول له هذا الثمن قليل ، فيذهب السائم إلى شخص ثالث ، ويقول : يا فلان اشفع لي عند صاحب البيت لعله يبيعه عليّ ، فيذهب ويشفع له ، فهذا جائز ؛ بل هو مأجور على ذلك ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه صاحب حاجة يلتفت إلى أصحابه ويقول : (( اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ))( 17 ) أو (( ما أحب )) . فهنا يأمر عليه الصلاة والسلام أصحابه بأن يشفعوا لصاحب الحاجة .
ومثل ذلك أيضاً لو وجب لك حق على شخص ، ورأيت أنك إذا تنازلت عنه هكذا ربما استخفّ بك في المستقبل وانتهك حرمتك ، فهنا لا حرج أن تقول مثلاً لبعض الناس : اشفعوا له عندي ؛ حتى تظهر أنت بمظهر القوي ولا تجبن أمامه ويحصل المقصود .
فالحاصل أن الشفاعة في غير أمر محرم من الإحسان إلى الغير كما قال تعالى ( مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا) [النساء: 85] .



( 11 ) رواه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب التحريض على الصدقة . . ، رقم ( 1432 ) ، ومسلم ، كتاب البر والصلة ، باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام ، رقم ( 2627 ) .
( 12 ) رواه البخاري ، كتاب الطلاق ، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج ، رقم ( 5283 ) .
( 13 ) رواه البخاري ، كتاب المناقب ، باب ذكر أسامة بن زيد ، رقم ( 2722 ) ، ومسلم ، كتاب الحدود ، باب قطع السارق الشريف وغيره . . ، رقم ( 1688 ) .
( 14 ) رواه أبو داود ، كتاب الأقضية ، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها ، رقم ( 3597 ) .
( 15 ) رواه ابن مالك في الموطأ ( 2/ 835 ) .
( 16 ) رواه أبو داود ، كتاب الحدود ، باب من سرق من حرز ، رقم ( 4394 ) ، والنسائي ، كتاب قطع السارق ، باب ما يكون حرزاً وما لا يكون ، وابن ماجه ، كتاب الحدود ، باب من سرق من حرز رقم ( 2595 ) .
( 17 ) رواه البخاري ، كتاب الزكاة ، باب الصدقة باليمين ، رقم ( 1432 ) ، ومسلم ، كتاب البر والصلة ، باب استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام ، رقم ( 2627 ) .

الموضوع السابق


29 ـ باب قضاء حوائج المسلمين قال الله تعالى : ( وَافْـعَـلـُوا الْخـَيـْرَ لَعَـلـَّكـُمْ تُفـْلـِحـُونَ) [الحج: 77] . 1/244 ـ وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. من كان في حاجة أخيه ؛ كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة ؛ فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ؛ ستره الله يوم القيامة )) متفق عليه (7) . 2/245 وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا ؛ نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسرٍ ؛ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ، ستره الله في الدنيا والآخرة.والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ؛ سهل الله له طريقاً إلى الجنة. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى ، يتلون كتاب الله ، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ، ومن بطأ به عمله؛ لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم(8).