1/248 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقه ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة )) متفق عليه ( 18 ) . ومعنى (( تعدل بينهما )): تصلح بينهما بالعدلِ .
 
سبق لنا ما ذكره المؤلف من الآية الكريمة الدالة على فضيلة الإصلاح بين الناس ، ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يصبح على كل سلامى من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس )) ، والسُلامى هي العظام والمفاصل ؛ يعني كل يوم تطلع الشمس ؛ فعلى كل مفصل من مفاصلك صدقة .
قال العلماء من أهل الفقه والحديث : وعدد السلامى في كل إنسان ثلاثمائة وستون عضواً أو مفصلاً ، فعلى كل واحد من الناس أن يتصدق كل يوم تطلع فيه الشمس بثلاثمائة وستين صدقة ، ولكن الصدقة لا تختص بالمال ؛ بل كل ما يقرب إلى الله فهو صدقة بالمعنى العام ؛ لأن فعله يدل على صدق صاحبه في طلب رضوان الله عز وجل .
ثم بيّن صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة فقال : (( تعدل بين اثنين صدقة )) يعني رجلان يتخاصمان إليك فتعدل بينهما ؛ تحكم بينهما بالعدل ، وكل ما وافق الشرع فهو عدل ، وكل ما خالف الشرع فهو ظلم وجور .
وعلى هذا فنقول : هذه القوانين التي يحكم بها بعض الناس وهي مخالفة لشريعة الله ليست عدلاً ؛ بل هي جور وظلم وباطل ، ومن حكم بها معتقداً أنها مثل حكم الله أو أحسن منه ؛ فإنه كافر مرتد عن دين الله ؛ لأنه كذب قول الله تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50] ، يعني لا أحد أحسن من الله حكماً ، لكن لا يفهم هذا إلا من يوقن ، أما الذي أعمى الله بصيرته ، فإنه لا يدري بل قد يزين له سوء عمله فيراه حسناً والعياذ بالله .
ومن العدل بين اثنين : العدل بينهما بالصلح ، لأن الحاكم بين الاثنين سواء أكان منصوباً من قبل ولي الآمر، أو غير منصوب قد لا يتبين له وجه الصواب مع أحد الطرفين ، فإذا لم يتبين له، فلا سبيل له إلا الإصلاح ، فيصلح بينهما بقدر ما يستطيع .
وقد سبق لنا أنه لا صلح مع المشاحة ، يعني أن الإنسان إذا أراد أن يعامل أخاه بالمشاحة ، فإنه لا يمكن الصلح ، كما قال تعالى: ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ) [النساء:128] يشير إلى أن الصلح ينبغي للإنسان أن يبعد فيه عن الشحّ ، وأن لا يطالب بكامل حقه ؛ لأنه إن طالب بكامل حقه ، طالب الآخر بكامل حقه ولم يحصل بينهما صلح ؛ بل لابد أن يتنازل كل واحد منهم عن بعض حقه .
فإذا لم يكن الحكم بين الناس بالحق ، بل اشتبه على الإنسان إما من حيث الدليل ، أو من حيث حال المتخاصمين ، فليس هناك إلا السعي بينهما بالصلح .
قال عليه الصلاة والسلام : (( تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعاً صدقة )) .
هذا أيضاً من الصدقات ؛ أن تعين الرجل في دابته فتحمله عليها إذا كان لا يستطيع أن لا يركبها بنفسه ، أو تحمل له عليها متاعه ، تساعده على حمل المتاع على الدابة فهذا صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ؛ يعني إذا رأيت ما يؤلم المشاة فأمطته أي : أزلته فهذه صدقة ، سواء كان حجراً ، أم زجاجاً ، أم قشر بطيخ ، أم ثياباً يلتوي بعضها على بعض ، أو ما أشبه ذلك .
والحاصل أن كل ما يؤذي أَزِلْه عن الطريق ، فإنك بذلك تكون متصدقاً ، وإذا كان إماطة الأذى عن الطريق صدقة ؛ فإن إلقاء الأذى في الطريق سيئة .
ومن ذلك من يلقون قمامتهم في وسط الشارع ، أو يتركون المياه تجري في الأسواق فتؤذي الناس ، مع أن في ترك المياه مفسدة أخرى ، وهي استنفاد الماء ؛ لأن الماء مخزون في الأرض ، قال الله تعالى : ( فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) [الحجر: 22] ، والمخزون ينفد .
ولهذا نرى أن الذي يترك المياه ويسرف في صرفها ولا يبالي في ضياعها مسيء إلى كل الأمة ؛ لأن الماء مشترك ، فإذا أسأت في تصريفه وأنفقته ولم تبال به كنت مسرفاً ، والله لا يحب المسرفين ، وكنت مسيئاً لتهديد الأمة قي نقص مائها أو زواله ، وهذا ضرر عام .
والحاصل أن الذين يلقون في الأسواق ومسار الناس ما يؤذيهم هم مسيئون، والذين يزيلون ذلك هم متصدقون.
(( وتميط الأذى عن الطريق صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة )) ، وهذه ـ ولله الحمد ـ من أعم ما يكون . الكلمة الطيبة تنقسم إلى قسمين : طيبة بذاتها ، طيبة بغاياتها .
أما الطيبة بذاتها فالذكر : لا إله إلا الله ، الله أكبر ، الحمد لله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، وأفضل الذكر قراءة القرآن .
وأما الكلمة الطيبة في غايتها فهي الكلمة المباحة كالتحدث مع الناس ، إذا قصدت بهذا إيناسهم وإدخال السرور عليهم ، فإن هذا الكلام وإن لم يكن طيباً بذاته لكنه طيب في غاياته ، في إدخال السرور على إخوانك ، وإدخال السرور على إخوانك مما يقربك إلى الله عز وجل ، فالكلمة الطيبة صدقة وهذا من أعم ما يكون .
ثم قال (( وفي كل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة)) .
كل خطوة : خطوة ـ بالفتح ـ يعني خطوة واحد تخطوها إلى الصلاة ففيها صدقة . عد الخطى من بيتك إلى المسجد تجدها كثيرة ومع ذلك كل خطوة فهي صدقة لك ، إذا خرجت من بيتك مسبغاً الوضوء ، لا يخرجك من بيتك إلى المسجد إلا الصلاة ، فإن كل خطوة صدقة ، وكل خطوة تخطوها يرفع الله لك بها درجة ، ويحط عنك بها خطيئة . وهذا فضل عظيم .
أسبغ الوضوء في بيتك ، واخرج إلى المسجد ، لا يخرجك إلا الصلاة ، وأبشر بثلاث فوائد :
الأولى : صدقة ، والثانية : رفع درجة ، والثالثة : حطّ خطيئة .
كل هذا من نعم الله عز وجل ، والله الموفق .



( 18 ) رواه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، باب من أخذ بالركاب ونحوه ، رقم ( 2989 ) ، ومسلم ، وكتاب الزكاة ، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من ، رقم ( 1009 ) .