3/254 ـ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( احتجت الجنة النار فقالت النار : في الجبارون والمتكبرون ، وقالت الجنة : في ضعفاء الناس ومساكينهم فقضى الله بينهما : إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء ، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء ، ولكليكما علي ملؤها )) رواه مسلم( 30 ) .
 
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( احتجت الجنة والنار )) يعني : تحاجا فيما بينهما ، كل واحدة تدلي بحجتها ، وهذا من الأمور الغيبية
التي يجب علينا أن نؤمن بها حتى وإن استبعدتها العقول وقال الإنسان : كيف تتحاج الجنة والنار وهما جمادان ؟!
فإننا نقول إن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير ، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الأرض يوم القيامة تحدث أخبارها بما أوحى الله إليها به ، فإذا أمر الله شيئاً بشيء ؛ فإن هذا المأمور سيستجيب على كل حال ، الأيدي يوم القيامة والألسن والأرجل والجلود كلها تشهد ، مع أنها جماد ، وتشهد على صاحبها مع أنها أقرب الناس إليه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيءِ قدير.
فالجنة احتجت على النار ، والنار احتجت على الجنة . النار احتجت بأن فيها الجبارين والمتكبرين .
الجبارون أصحاب الغلظة والقسوة ، والمتكبرون أصحاب الترفع والعلو ، والذين يغمطون الناس ويردون الحق ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الكبر : (( إنه بطر الحق وغمط الناس ))( 31 ) .
فأهل الجبروت وأهل الكبرياء هم أهل النار والعياذ بالله ، وربما يكون صاحب النار لين الجانب للناس ، حسن الأخلاق ، لكنه جبار بالنسبة للحق ، مستكبر عن الحق ، فلا ينفعه لينه وعطفه على الناس ، بل هو موصوف بالجبروت والكبرياء ولو كان لين الجانب للناس ؛ لأنه تجبر واستكبر عن الحق .
أما الجنة فقالت : إن فيها ضعفاء الناس وفقراء الناس . فهم في الغالب الذين يلينون للحق وينقادون له ، وأما أهل الكبرياء والجبروت ؛ ففي الغالب أنهم لا ينقادون .
فقضى الله عز وجل بينهما فقال : ((إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء )) وقال للنار : ((إنك النار عذابي أعذب بك من أشاء )) إنك الجنة رحمتي : يعني أنها الدار التي نشأت من رحمة الله، وليست رحمته التي هي صفته؛ لأن رحمته التي هي صفته وصف قائم به ، لكن الرحمة هنا مخلوق ، أنت رحمتي يعني خلقتك برحمتي ، أرحم بك من أشاء .
وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء كقوله تعالى : ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ )[العنكبوت: 21] فأهل الجنة هم أهل رحمة الله ـ نسأل الله أن يجعلني وإياك منهم ـ وأهل النار هم أهل عذاب الله .
ثم قال عز وجل : (( ولكليكما عليَّ ملؤها )) تكفل عز وجل وأوجب على نفسه أن يملأ الجنة ويملأ النار ، وفضل الله سبحانه وتعالى ورحمته أوسع من غضبه ، فإنه إذا كان يوم القيامة ألقى من يلقى في النار ، وهي تقول هل من مزيد ، يعني أعطوني . أعطوني . زيدوا . فيضع الله عليها رجله ، وفي لفظ عليها قدمه ، فينزوي بعضها على بعض ، ينضم بعضها إلى بعض من أثر وضع الرب عز وجل عليها قدمه ، وتقول : قط قط ، يعني : كفاية كفاية ، وهذا ملؤها .
أما الجنة فإن الجنة واسعة ، عرضها السَّمَوَاتِ والأرض يدخلها أهلها ويبقى فيها فضل زائد على أهلها ، فينشى الله تعالى لها أقواماً فيدخلهم الجنة بفضله ورحمته ؛ لأن الله تكفل لها بملئها .
ففي هذا دليل على أن الفقراء والضعفاء هم أهل الجنة ؛ لأنهم في الغالب هم الذين ينقادون للحق ، وأن الجبارين المتكبرين هم أهل النار والعياذ بالله ؛ لأنهم مستكبرون على الحق وجبارون . لا تلين قلوبهم لذكر الله ، ولا لعباد الله . نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية .



( 30 ) رواه مسلم ، كتاب الجنة ، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها . . . ، رق ( 2846 ) .
( 31 ) رواه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه ، رقم ( 91 ) .

الموضوع السابق


2/253 ـ وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لرجل عنده جالس : (( ما رأيك في هذا ؟ )) فقال : رجل من أشراف الناس ، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مر رجل آخر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما رأيك في هذا )) فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح ، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن لا يسمع لقوله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هذا خير من ملء الأرض مثل هذا )) متفق عليه ( 29 ) . قوله ((حري )) : هو بفتح الحاء وكسر الراء وتشديد الياء : أي حقيق . وقوله : (( شفع )) بفتح الفاء .