4/255 ـ وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة )) متفق عليه (32) .
 
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة )) ذكر المؤلف هذا الحديث في باب المستضعفين والفقراء من المسلمين ، وذلك لأن الغالب أن السمنة إنما تأتي من البطنة أي : من كثرة الأكل ، وكثرة الأكل تدل على كثرة المال والغنى ، والغالب على الأغنياء البطر والأشر وكفر النعمة ، حتى إنهم يوم القيامة يكونون بهذه المثابة ، يؤتى بالرجل العظيم السمين يعني كثير اللحم والشحم .
عظيم كبير الجسم لا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضة ، والبعوضة معروفة من أشد الحيوانات امتهاناً وأهونها وأضعفها ، وجناحها كذلك.
وفي هذا الحديث إثبات الوزن يوم القيامة ، وقد دل على ذلك كتاب الله عز وجل ، قال الله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)(الانبياء:47) .
وقال جل وعلا : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(7) ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة: 7،8] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اتقوا النار ولو بشق تمرة )) (33) .
فالوزن يوم القيامة وزن عدل ليس فيه ظلم ، يجازى فيه الإنسان على حسب ما عنده من الحسنات والسيئات. قال أهل العلم : فمن رجحت حسناته على سيئاته فهو من أهل الجنة ، ومن رجحت سيئات على حسناته استحق أن يعذب في النار ، ومن تساوت حسناته وسيئاته كان من أهل االأعراف ، الذين يكونون بين الجنة والنار لمدة ، على حسب ما يشاء الله عز وجل ، وفي النهاية يدخلون الجنة .
ثم إن الوزن حسي بميزان له كفتان ، توضع في إحداهما السيئات وفي الأخرى الحسنات ، وتثقل الحسنات ، وتخف السيئات إذا كانت الحسنات أكثر ، والعكس بالعكس .
ثم ما الذي يوزن ؟ ظاهر هذا الحديث أن الذي يوزن الإنسان ، وأنه يخف ويثقل بحسب أعماله .
وقال بعض العلماء : بل الذي يوزن صحائف الأعمال ، توضع صحائف السيئات في كفة ، وصحائف الحسنات في كفة ، وما رجح فالعمل عليه .
وقيل : بل الذي يوزن العمل ؛ لأن الله تعالى قال : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة:7] ، فجعل الوزن للعمل ، وقال تعالى : ( وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا)(الانبياء: 47) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم )) (34) ، فقوله صلى الله عليه وسلم : كلمتان ثقيلتان في الميزان يدل على أن الذي يوزن هو العمل ، وهذا هو ظاهر القرآن الكريم وظاهر السنة ، وربما يوزن هذا وهذا ، أي توزن الأعمال وتوزن صحائف الأعمال .
وفي هذا الحديث التحذير من كون الإنسان لا يهتم إلا بنفسه أي بتنعيم جسده ، والذي ينبغي للعاقل أن يهتم بتنعيم قلبه ، ونعيم قلب الإنسان بالفطرة وهي التزام دين الله عز وجل ، وإذا نعم القلب نعم البدن ولا عكس .
قد ينعم البدن ويؤتى الإنسان من الدنيا ما يؤتى من زهرتها ، ولكن قلبه في جحيم والعياذ بالله .
وإذا شئت أن تتبين هذا فاقرأ قوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، لم يقل فلننعمن أبدانهم ، بل قال : ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَة)ً وذلك بما يجعل الله في قلوبهم من الأنس ، و انشراح الصدر ، وطمأنينة القلب وغير ذلك ، حتى إن بعض السلف قال: لو يعلم الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف: يعني من انشراح الصدر، ونور القلب والطمأنينة والسكون .
أسأل الله أن يشرح قلبي وقلوبكم للإسلام ، وينورها بالعلم والإيمان إنه جواد كريم .


(32) رواه البخاري ، كتاب التفسير ، باب (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ . . . . ) ،رقم ( 4729) ، ومسلم ، كتاب صفة المنافقين ، بدون ذكر الباب ، رقم (2785 ) .
(33) رواه البخاري ، كتاب الأدب ، باب طيب الكلام ، رقم ( 6023 ) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب الحث على الصدقة . . . ، رقم ( 1016 ) ( 68) .
(34) رواه البخاري ، الأيمان والنذور ، باب إذا قال : (( والله لا أتكلم اليوم فصلى ، رقم ( 6682 ) ، ومسلم ، كتاب الذكر والدعاء ، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء ، رقم (2694 )

الموضوع التالي


5/256 ـ وعنه أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ـ أو شاباً ـ ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عنها أو عنه فقالوا : مات . قال : (( أفلا كنتم آذنتموني )) فكأنهم صغروا أمرها ، أو أمره فقال : (( دلوني على قبره )) فدلوه فصلى عليها ، ثم قال : (( إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم )) متفق عليه) (35). قوله (( تقم )) هو بفتح التاء وضم القاف : أي تكنس . (( والقمامة)) الكناسة . (( وآذنتموني )) بمد الهمزة : أي أعلمتموني .