5/256 ـ وعنه أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ـ أو شاباً ـ ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عنها أو عنه فقالوا : مات . قال : (( أفلا كنتم آذنتموني )) فكأنهم صغروا أمرها ، أو أمره فقال : (( دلوني على قبره )) فدلوه فصلى عليها ، ثم قال : (( إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم )) متفق عليه) (35). قوله (( تقم )) هو بفتح التاء وضم القاف : أي تكنس . (( والقمامة)) الكناسة . (( وآذنتموني )) بمد الهمزة : أي أعلمتموني .
 
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن امرأة سوداء كان تقم المسجد أو شاباًّ ، وأكثر الروايات على أنها امرأة سوداء ، يعني ليست من نساء العرب كانت تقم المسجد : يعني تنظفه وتزيل القمامة ، فماتت في الليل فصغر الصحابة رضي الله عنهم شأنها ، وقالوا : لا حاجة إلى أن نخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الليل ، ثم خرجوا بها فدفنوها ، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنها ماتت فقال : ((أفلا كنتم آذنتموني )) يعني أعلمتموني حين ماتت ، ثم قال :(( دلوني على قبرها )) فدلوه ، فصلى عليها، ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)).
ففي هذا الحديث عدة فوائد :
منها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يعظم الناس بحسب أعمالهم ، وما قاموا به من طاعة الله وعبادته .
ومن الفوائد جواز تولي المرأة لتنظيف المسجد ، وأنه لا يحجر ذلك على الرجال فقط ؛ بل كل من احتسب ونظف المسجد فله أجره ؛ سواء باشرته المرأة ، أو استأجرت من يقم المسجد على حسابها .
ومن فوائد هذا الحديث : مشروعية تنظيف المساجد ، وإزالة القمامة عنها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد )) ( 36 ) ، القذاة : الشيء الصغير ، يخرجه الرجل من المسجد فإنه يؤجر عليه .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور ، وأن تنظف وتطيب ، فالمساجد بيوت الله ينبغي العناية بها وتنظيفها ، ولكن لا ينبغي زخرفتها وتنقيشها بما يوجب أن يلهو المصلون بما فيها من الزخرفة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لتزخرفنها ـ يعني المساجد ـ كما زخرفها اليهود والنصارى )) ( 37 ) .
ومن فوائد هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب ، ولهذا قال : ((دلوني على قبرها )) فإذا كان لا يعلم الشيء المحسوس فالغائب من باب أولى ، فهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب ، وقد قال الله له : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ) (الأنعام: 50) وقال له : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(االأعراف:188).
ومن فوائد هذا الحديث مشروعية الصلاة على القبر لمن لم يصل عليه قبل الدفن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى على القبر حيث لم يصلّ عليها قبل الدفن ، ولكن هذا مشروع لمن مات في عهدك وفي عصرك ، أما من مات سابقاً فلا يشرع أن يصلي عليه ، ولهذا لا يشرع لنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على قبره ، أو على قبر أبي بكر ، أو عمر ، أو عثمان ، أو غيرهم من الصحابة ، أو غيرهم من العلماء والأئمة.
وإنما تشرع الصلاة لمن مات في عهدك ، فمثلاً إذا مات إنسان قبل ثلاثين سنة وعمرك ثلاثون سنة ؛ فإنك لا تصلي عليه صلاة الميت ؛ لأنه مات قبل أن تخلق وقبل أن تكون من أهل الصلاة ، أما من مات وأنت قد كنت من أهل الصلاة ، من قريب أو أحد تحب أن تصلي عليه فلا بأس .
فلو فرض أن رجلاً مات قبل سنة أو سنتين ، وأحببت أن تصلي على قبره وأنت لم تصل عليه من قبل فلا بأس .
ومن فوائد هذا الحديث : حسن رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وأنه كان يتفقدهم ويسأل عنهم ، فلا يشتغل بالكبير عن الصغير ؛ كل ما يهم المسلمين فإنه يسأل عنه صلى الله عليه وسلم .
ومن فوائد هذا الحديث جواز سؤال المرء ما لا تكون به منّة في الغالب ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( دلوني على قبرها )) وهذا سؤال ، لكن مثل هذا السؤال ليس فيه منّة ، بخلاف سؤال المال فإن سؤال المال محرم ، يعني لا يجوز أن تسأل شخصاً مالاً وتقول أعطني عشرة ريالات أو مائة ريال ، إلا عند الضرورة .
أما سؤال غير المال مما لا يكون فيه منّة في الغالب ؛ فإن هذا لا بأس به ، ولعل هذا مخصص لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه عليه حيث كان يبايعهم ألا يسألوا الناس شيئاً .
وربما يؤخذ من هذا الحديث جواز إعادة الصلاة على الجنازة ، لمن صلى عليها من فبل إذا وجد جماعة ؛ لأن الظاهر أن الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوا معه ، وعلى هذا فتشرع إعادة صلاة الجماعة إذا صلى عليها جماعة آخرون مرة ثانية .
وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم ، وقالوا : كما أن صلاة الفريضة تعاد إذا صليتها ثم أدركتها مع جماعة أخرى ، فكذلك صلاة الجنازة ، وبناءً على ذلك لو أن أحداً صلى على جنازة في المسجد ، ثم خرجوا بها للمقبرة ، ثم قام أناس يصلون عليها جماعة ؛ فإنه لا حرج ولا كراهة في أن تدخل مع الجماعة الآخرين فتعيد الصلاة ؛ لأن إعادة الصلاة هنا لها سبب ليست مجرد تكرار بل لها سبب ، وهو وجود الجماعة الأخرى .
فإذا قال قائل : إذا صليت على القبر فأين أقف ؟ فالجواب أنك تقف وراءه تجعله بينك وبين القبلة ، كما هو الشأن فيما إذا صليت عليه قبل الدفن .



(35) رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب الصلاة على القبر . . . ، رقم (1337) ، وملم ، كتاب ، باب الصلاة على القبر رقم ( 956 ) .
( 36 ) رواه الترمذي ، كتاب فضائل القرآن ، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن ماله من الأجر ، رقم ( 2916 ) ، وأبو داود ،كتاب الصلاة ، باب في كنس المسجد، رقم (461 ) .
( 37 ) رواه البخاري ، كتاب الصلاة ، باب بنيان المساجد ، بدون رقم .

الموضوع التالي


6/257 ـ وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره )) رواه مسلم ( 38 ) . 7/258 ـ وعن أسامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( قمت على باب الجنة ، فإذا عامة من دخلها المساكين ، وأصحاب الجد محبوسون ، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار . وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء )) متفق عليه ( 39 ) . (( والجد )) بفتح الجيم : الحظ والغنى ، وقوله : (( محبوسون )) أي : لم يؤذن لهم بعد في دخول الجنة .