وقال تعالى : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) [الضحى: 9 ، 10] .
 
ذكر المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ساقه من الآيات الكريمة في باب الحنو على الفقراء واليتامى والمساكين وما أشبههم ، قال : وقول الله تعالى: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى(8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) [الضحى: 6 ،11] ، الخطاب في قوله : ( أَلَمْ يَجِدْكَ ) للنبي صلى الله عليه وسلم . يقرر الله تعالى في هذه الآيات أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتيماً ، فإنه عليه الصلاة والسلام عاش من غير أم ولا أب ، فكفله جده عبد المطلب ، ثم مات هو في السنة الثامنة من عمره صلى الله عليه وسلم ، ثم كفله عمه أبو طالب . فكان يتيماً وكان صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط ، يعني على شيء يسير من الدراهم ؛ لأنه ما من نبي بعثه الله إلا ورعى الغنم ، فكل الأنبياء الذين أرسلوا أول أمرهم كانوا رعاة غنم ، من أجل أن يعرقوا ويتمرنوا على الرعاية وحسن الولاية ، واختار الله لهم أن تكون رعيتهم غنماً ؛ لأن راعي الغنم يكون عليه السكينة والرأفة والرحمة ؛ لأنه يرعى مواشي ضعيفة بخلاف رعاة الإبل ، رعاة الإبل أكثر ما يكون فيهم الجفاء والغلظة ؛ لأن الإبل كذلك غليظة قوية جبارة .
فنشأ صلى الله عليه وسلم يتيماً ، ثم إن الله سبحانه وتعالى أكرمه فيسر له زوجة صالحة ، وهي أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ؛ تزوجها وله خمس وعشرون من العمر ولها أربعون سنة ، وكانت حكيمة عاقلة صالحة ، رزقه الله أولاده كلهم من بنين وبنات إلا إبراهيم فإنه من كان سريته مارية القبطية ، المهم أن الله يسرها له وقامت بشئونه ، ولم يتزوج سواها صلى الله عليه وسلم حتى ماتت .
أكرمه الله عز وجل بالنبوة فكان أول ما بدىء بالوحي أن يرى الرؤيا في المنام ، فإذا رأى الرؤيا في المنام جاءت مثل فلق الصبح في يومها بينة واضحة ؛ لأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ، فدعا إلى الله وبشر وأنذر وتبعه الناس ، وكان هذا اليتيم الذي يرعى الغنم كان إماماً لأمه هي أعظم الأمم ، وكان راعياً لهم عليه الصلاة والسلام راعياً للبشر ولهذه الأمة العظيمة .
قال : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) [الضحى:6] ، آواك الله بعد يتمك ، ويسر لك من يقوم بشئونك حتى ترعرعت ، وكبرت ، ومنّ الله عليك بالرسالة العظمى .
( وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) [الضحى:7] وجدك ضالاً : يعني غير عالم ، كما قال الله تعالى: ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) [العنكبوت: 48] وقال تعالى : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء: 113] ، وقال الله تعالى : ( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ ) [الشورى: 52] ، ولكن صار بهذا الكتاب العظيم عالماً كامل الإيمان عليه الصلاة والسلام ، وجدك ضالاً أي غير عالم ولكنه هداك . بماذا هداه ؟ هداه الله بالقرآن .
(وَوَجَدَكَ عَائِلاً ) يعني فقيراً ( فَأَغْنَى) أغناك ، وفتح الله عليك الفتوح حتى كان يقسم ويعطي الناس ، وقد أعطى ذات يوم رجلاً غنماً بين جبلين ، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة عليه الصلاة والسلام .
ثم تأملوا قوله تعالى: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) ما قال فآواك بل قال : ( فَآوَى ) (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) ولم يقل فهداك ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ولم يقل فأغناك . لماذا ؟ لمناسبتين ؛ إحداهما لفظية ، والثانية معنوية .
أما اللفظية : فلأجل تناسب رؤوس الآيات كقوله تعالى: ( وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) [الضحى:1 ـ5] كل آخر الآيات ألفات، فقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى) [الضحى:6] ، لو قال فآواك اختلف اللفظ ، ووجدك ضالاً فهداك اختلف اللفظ ، ووجدك عائلاً فأغناك اختلف اللفظ ، لكن جعل الآيات كلها على فواصل حرف واحد .
المناسبة الثانية معنوية : وهي أعظم ، ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) هل آواه الله وحده أو آواه وآوى أمته ؟ والجواب : الثاني ، آواه الله وآوى على يديه أمما لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ووجدك ضالاً فهدى .هل هداه وحده ؟ لا ؛ هدى به أمما عظيمة إلى يوم القيامة ، ووجدك عائلاً فأغنى . هل أغناه الله وحده ؟ لا ؛ أغناه الله وأغنى به . كم حصل للأمة الإسلامية من الفتوحات العظيمة. ( وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ) [الفتح: 20]، فأغناهم الله عز وجل بمحمد صلى الله عليه وسلم .
إذاً ألم يجدك يتيماً فآواك وآوى بك ، ووجدك ضالاً فهداك وهدى بك ووجدك عائلاً فأغناك وأغنى بك ، هكذا حال الرسول عليه الصلاة والسلام .
ثم قال : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) اذكر نفسك حين كنت يتيماً ، فلا تقهر اليتيم ، بل سهل أمره ؛ إذا صاح فسكته ، إذا غضب فأرضه ، إذا تعب فخفف عليه ، وهكذا .
( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) السائل : يظهر من سياق الآيات أنه سائل المال الذي يقول أعطني مالاً ، فلا تنهره لأنه قال : ( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ) ، فلما أغناك لا تنهر السائل . تذكر حالك حينما كنت فقيراً ، فلا تنهر السائل .
ويحتمل أن يُراد بالسائل سائل المال وسائل العلم ، حتى الذي يسأل العلم لا تنهره . بل الذي يسأل العلم القه بانشراح صدر ؛ لأنه لولا أنه محتاج ولولا أن عنده خوف الله عز وجل ما جاء يسأل ، فلا تنهر اللهم إلا من تعنت فهذا لا حرج أن تنهره .
لو كنت تخبره ثم يقول لكل شيء : لماذا هذا حرام ؟ ولماذا هذا حلال ؟ لماذا حرم الله الربا وأحل البيع ؟ لماذا حرم الله الأم من الرضاع ؟ وأشياء كثيرة من قبيل هذا . فهذا الذي يتعنت انهره ولا حرج أن تغضب عليه .
كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام حين تشاجر رجل من الأنصار والزبير بن العوام ، في الوادي حيث يأتي السيل ، وكان الزبير رضي الله عنه حائطه قبل حائط الأنصاري فتنازعا ؛ الأنصاري يقول للزبير : لا تحبس الماء عني والزبير يقول : أنا أعلى فأنا أحق ، فتشاجرا وتخاصما عند الرسول عليه الصلاة والسلام ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اسق يا زبير ثم أرسله إلى جارك )) ، وهذا حكم . فقال : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ! كلمة لكن الغضب حمله عليها والعياذ بالله ، والزبير بن العوام بن صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول عليه الصلاة والسلام . قال : أن كان ابن عمتك يا رسول الله ، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : (( اسق يا زبير حتى يصل إلى الجدر ثم أرسله إلى جارك )) (48)
فالحاصل أن السائل للعلم لا تنهره ، بل تلقه بصدر رحب وعلّمه حتى يفهم ، خصوصاً في وقتنا الآن ، فكثير من الناس الآن يسألك وقلبه ليس معك . تجيبه بالسؤال ثم يفهمه خطأ ثم يذهب يقول للناس : أفتاني العالم الفلاني بكذا وكذا ، ولهذا ينبغي ألا تطلق الإنسان الذي يسألك حتى تعرف أنه عرف .
( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) نعمة الله عليك حدث بها ، قل الحمد لله ؛ رزقني الله علماً رزقني الله مالاً ، ورزقني الله ولداً وما أشبه ذلك .
والتحدث بنعمة الله نوعان : تحديث باللسان ، وتحديث بالأركان .
تحديث باللسان : كأن تقول : أنعم الله علي ؛ كنت فقيراً فأغناي الله ، كنت جاهلاً فعلمني الله ، وما أشبه ذلك.
والتحديث بالأركان : أن ترى أثر نعمة الله عليك ، فإن كنت غنياً فلا تلبس ثياب الفقراء بل البس ثياباً تليق بك ، وكذلك في المنزل ، وكذلك في المركوب ، في كل شيء دع الناس يعرفون نعمة الله عليك ، فإن هذا من التحديث بنعمة الله عز وجل ، ومن التحديث بنعمة الله عز وجل إذا كنت قد أعطاك الله علماً أن تحدث الناس به تعلم الناس ؛ لأن الناس محتاجون . وفقني الله والمسلمين لما يحب ويرضى .



(48) رواه البخاري ، كتاب الشرب والمساقاة ، باب سكر الأنهار ، رقم ( 2360 ) ، ومسلم ، كتاب الفضائل ، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ، رقم ( 2357)