3/343 ـ وعن أبي أسيد ـ بضم الهمزة وفتح السين ـ مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال : بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال : يا رسول الله ، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ فقال : (( نعم ، الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنقاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما )) رواه أبو داود(169) . 4/344 ـ وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة رضي الله عنها ، وما رأيتها قط ، ولكن كان يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ، ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة فيقول : (( إنها كانت وكان لي منها ولد )) متفق عليه (170) وفي رواية : وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن (171) وفي رواية : كان إذا ذبح الشاة يقول (( أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة ))(172) . وفي رواية قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة ، فارتاح لذلك فقال : (( اللهم هالة بنت خويلد ))(173) . قولها (( فارتاح )) هو بالحاء ، وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي : (( فارتاع )) بالعين ومعناه : أهتم به .
 
كذلك أيضاً يبقى من البر بعد موت الوالدين ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل : هل بقي من بر أبواي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( نعم ، الصلاة عليهما )) يعني الدعاء لهما وليس المراد صلاة الجنازة، بل المراد الدعاء. فالصلاة هنا بمعنى الدعاء وهي كقوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) [التوبة: 103] وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته الصدقة قال : اللهم صل على آل فلان ، كما قال عبد الله بن أبي أوفى أنه أتى بصدقة قومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( اللهم صل على آل أبي أوفى )) (174) ، فدعا لهم بالصلاة عليهم .
فقول النبي صلى عليه وسلم هنا : (( الصلاة عليهما )) يعني الدعاء لهما بالصلاة ، فيقول : اللهم صلّ على أبوي ، أو يدعو بدخول الجنة والنجاة من النار وما أشبه ذلك .
الثاني : (( الاستغفار لهما )) وهو أن يستغفر الإنسان لوالديه ، يقول : اللهم اغفر لي ولوالدي ، وما أشبه ذلك ، وأما (( إنفاذ عهدهما)) يعني إنقاذ وصيتهما .
فهذه خمسة أشياء : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإكرام صديقهما ، وإنفاذ عهدهما ، وصلة الرحم التي لا صلة لك إلا بهما ، هذه من بر الوالدين .
كذلك الصدقة لهما ؛ فإن الصدقة تنفع الوالدين ، كذلك أيضاً إكرام صديقهما مثل حديث ابن عمر السابق ، يعني إن كان له صديق فأكرمه ، فإن هذا من بره .
الخامس : صلة الرحم التي لا صلة لك إلا بهما ، يعني صلة الأقارب فإن هذا من برهما .
أما قراءة القرآن لهما ، أو الصلاة ـ بأن يصلي الإنسان ركعتين ويقول لوالدي ـ فهذا لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا أرشد إليه ، بل قال : (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )) (175) ولم يقل : ولد صالح يتصدق له ، أو يصلي له ، أو يحج له ، أو يعتمر له ، بل قال : يدعو له ، فالدعاء خير من العمل الصالح للوالدين .
لكن لو فعل الإنسان ونوى بهذا العمل لوالديه ؛ فإن ذلك لا بأس به ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع سعد بن عبادة أن يتصدق لأمه بل أذن له (176) ، ولا الرجل الذي قال : يا رسول الله ، إن أمي افتلتت نفسها ، ولو تكلمت لتصدقت (177) .
فهذه خمسة أشياء من بر الوالدين بعد موتهما .
ثم ذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ حديث عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة رضي الله عنها ، والغيرة انفعال يكون في الإنسان ؛ يجب أن يختص صاحبه به دون غيره ، ولهذا سميت غيرة ؛ لأنه يكره أن يكون الغير حبيباً ، والنساء الضرات هن أشد بني آدم غيرة .
وعائشة رضي الله عنها كانت حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يحب أحداً مثلها في حياته بعد خديجة ، وكان عليه الصلاة والسلام يحب خديجة ؛ لأنها أم أولاده ـ إلا إبراهيم فمن مارية ـ ولأنها وازرته وساعدته في أول البعثة ، وواسته في ماله ، فلذلك كان لا ينساها .
فكان في المدينة إذا ذبح شاة أخذ من لحمها وأهداه إلى صديقات خديجة رضي الله عنها ، ولم تصبر عائشة رضي الله عنها على ذلك ، قالت : يا رسول الله ، كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة .
قال : (( إنها كانت وكانت )) ، يعني كانت تفعل كذا ، وتفعل كذا ، وذكر من خصالها رضي الله عنها .
(( وكان لي منها ولد )) حيث كل أولاده ؛ أربع بنات وثلاثة أولاد كلهم منها إلا ولداً واحداً هو إبراهيم رضي الله عنه ، فإنه كان من مارية القبطية التي أهداها إليه ملك القبط ، فأولاده كلهم من خديجة فلذلك قال : (( إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد )) .
والشاهد من هذا الحديث : أن إكرام صديق الإنسان بعد موته يعتبر إكراماً له ، وبراً به ، سواء كان من الوالدين ، أو من الأزواج ، أو من الأصدقاء ، أو من الأقارب ، فإن إكرام صديق الميت إكراماً له .



(169) رواه أبو داود ، كتاب الأدب ، في بر الوالدين ، رقم ( 5142 ) .
(170) رواه البخاري ، كتاب مناقب الأنصار ، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ، رقم ( 3818 ) .
(171) رواه البخاري ، كتاب مناقب الأنصار ، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجه ، رقم ( 3816 ) ، ومسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة ، رقم ( 24435 ) [ 74 ]
(172)رواه مسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة . . . ، رقم (2435 ) [ 75 ] .
(173) رواه البخاري ، كتاب مناقب الأنصار ، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة ، رقم ( 3821 ) ، ومسلم ، كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل خديجة . . ،رقم ( 2437 ) [ 78 ] .
(174) رواه البخاري ، كتاب الدعوات ، باب قول الله تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) ، رقم ( 6333) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب الدعاء لمن أتى بصدقة ، رقم ( 1078 ) .
(175) روه مسلم ، كتاب الوصية ، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته ، رقم ( 1631 ) .
(176) رواه البخاري ، كتاب الوصايا ، باب إذا قال أرضي أو بستاني ، رقم ( 2756 ) .
(177) رواه البخاري ، كتاب الوصايا ، باب ما يستح لمن توقى فجاءة ، رقم (2760) ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه ، رقم (1004 ) .

الموضوع السابق


باب بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه 1/341 ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه )) (166) . 2/342 ـ وعن عبد الله ين دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة ، فسلم عليه عبد الله بن عمر ، وحمله على حمارٍ كان يركبه ، وأعطاه عمامة كانت على رأسه ، قال ابن دينار : فقلنا له أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير ، فقال عبد الله بن عمر : إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه))(167) وفي رواية عن ابن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه إذا ملّ ركوب الراحلة ، وعمامة يشد بها رأسه فبينا هو يوماً على ذلك الحمار إذ مر به أعرابي ، فقال : ألست ابن فلان ابن فلان ؟ قال بلى . فأعطاه الحمار ، فقال : اركب هذا ، وأعطاه العمامة وقال : اشدد بها رأسك ، فقال له بعض أصحابه : غفر الله لك ! أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه ، وعمامة كنت تشد بها رأسك ؟ فقال ؟ : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولى)) (168) وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه . روى هذه الروايات كلها مسلم .