9 ـ باب إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى قال الله تعالى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ) [التوبة: 5] . 1/390 ـ وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى )) متفق عليه (234) . 3/391 ـ وعن أبي عبد الله طارق بن أشيم رضي الله عنه، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله ؛ حرم ماله ودمه ، وحسابه على الله تعالى )) رواه مسلم (235) . 3/392 ـ وعن أبي معبد المقداد بن الأسود رضي الله عنه ، قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرايت إن لقيت رجلاً من الكفار ، فاقتتلنا ، فضرب إحدى يدي بالسيف ، فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة ، فقال (( أسلمت لله )) أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ فقال (( لا تقتله )) . فقلت : يا رسول الله قطع إحدى يدي ، ثم قال ذلك بعد ما قطعها ؟ ! فقال : (( لا تقتله ، فإن قتلته ، فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال )) متفق عليه (236) . ومعنى (( أنه بمنزلتك )) أي : معصوم الدم محكوم بإسلامه ، ومعنى (( أنك بمنزلته )) أي : مباح الدم بالقصاص لورثته ، لا أنه بمنزلته في الكفر ، والله أعلم . 4/393 ـ وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة ، فصبحنا القوم على مياههم ، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله ، فكف عنه الأنصاري ، وطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمنا المدينة ، بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : (( يا أسامة ، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ فما زال يكررها على حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) متفق عليه(237) . وفي رواية : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أقال : لا إله إلا الله وقتلته ؟! )) قلت : يا رسول الله ، إنما قالها خوفا من السلاح ، قال : (( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ؟! )) فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ . (( الحرقة )) بضم الحاء المهملة وفتح الراء : بطن من جهينة القبيلة المعروف ، وقوله : (( متعوذاً )) : أي معتصماً بها من القتل لا معتقداً لها .
 
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ: باب حمل الناس على ظواهرهم ، وأن يكل الإنسان سرائرهم إلى الله عز وجل.
أولاً : اعلم أن العبرة في الدنيا بما في الظواهر ؛ اللسان والجوارح ، وأن العبرة في الآخرة بما في السرائر بالقلب .
فالإنسان يوم القيامة يحاسب على ما في قلبه ، وفي الدنيا على ما في لسانه وجوارحه ، قال الله تبارك وتعالى: ( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق: 8 ،9 ] ، تختبر السرائر والقلوب. وقال تعالى: ( أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ) [العاديات : 9 ـ11 ] .
فاحرص يا أخي على طهارة قلبك قبل طهارة جوارحك . كم من إنسان يصلي ، ويصوم ، ويتصدق ، ويحج ، لكن قلبه فاسد .
وهاهم الخوارج حدث عنهم النبي عليه الصلاة والسلام ؛ أنهم يصلون ، ويصومون ، ويتصدقون ، ويقرؤون القرآن ، ويقومون الليل ، ويبكون ، ويتهجدون ، ويحقر الصحابي صلاته عند صلاتهم ، لكن قال النبي عليه الصلاة والسلام: (( لا يجاوز إيمانهم حناجرهم )) (238) لا يدخل الإيمان قلوبهم .
مع أنهم صالحو الظواهر ، لكن ما نفعهم . فلا تغتر بصلاح جوارحك ، وانظر قبل كل شيء إلى قلبك ، أسأل الله أن يصلح قلبي وقلوبكم . أهم شيء هو القلب .
رفع رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قد شرب الخمر فجلده ، ثم رفع إليه مرة أخرى فجلده ، فسبه رجل من الصحابة ، وقال : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام .
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (( لا تلعنه ؛ فإن يحب الله ورسوله ))(239) فالقلب هو الأصل ولهذا قال الله تعالى : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) [المائدة:41] .
أما في الدنيا بالنسبة لنا مع غيرنا ، فالواجب إجراء الناس على ظواهرهم ؛ لأننا لا نعلم الغيب ، ولا نعلم ما في القلوب ، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنما أقضي بنحو ما أسمع))(240)
ولسنا مكلفين بأن نبحث عما في قلوب الناس ، ولهذا قال الله تعالى : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [التوبة: 5] ، يعني المشركين إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ؛ فخلوا سبيلهم وأمرهم إلى الله ، إن الله غفور رحيم .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على الله )) .
وبذلك يكون العمل بالظواهر ؛ فإذا شهد إنسان أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ؛ عصم دمه وماله ، وحسابه على الله ؛ فليس لنا إلا الظاهر .
وكذلك أيضا من قال لا إله إلا الله ؛ حرم دمه وماله ، هكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام .
ثم ذكر المؤلف حديثين عجيبين فيهما قصتان عجيبتان :
الأول : حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، إن لقيت رجلاً من المشركين ، فقاتلته ، فضربني بالسيف حتى قطع يدي ، ثم لاذ مني بشجرة ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله . أفأقتله ؟
قال : ((لا تقتله)) وهو مشرك قطع يد رجل مسلم ، ولاذ بالشجرة ، وقال : أشهد أن لا إله إلا الله . قال : أأقتله ؟
قال (( لا تقتله )) ، فإن قتلته فأنت مثله قبل أن يقول هذه الكلمة ، يعني تكون كافراً .
مع العلم بأني أنا وأنتم ، نظن أن هذا الرجل قال أشهد أن لا إله إلا الله خوفاً من القتل ، ومع ذلك يقول : لا تقتله ، فعصم دمه وماله .
وفي هذا الحديث أيضاً الدليل على أن ما أتلفه الكفار من أموال المسلمين وما جنوه على المسلمين غير مضمون . يعني الكافر لو أتلف شيئاً للمسلمين ، أو قتل نفساً لا يضمن إذا أسلم ، فالإسلام يمحو ما قبله .
القصة الثانية : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد في سرية إلى الحرقة من جهينة ، فلما وصلوا إلى القوم وغشوهم ، هرب من المشركين رجل ، فلحقه أسامة ورجل من الأنصار يتبعانه يريدان قتله ، فلما أدركاه قال : لا إله إلا الله ، أما الأنصاري فكان أفقه من أسامة ، فكف عنه ، تركه لما قال لا إله إلا الله . وأما أسامة فقتله .
فلما رجعوا إلى المدينة . وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة : (( أقتلته بعد أن قال لا إله إلا لله )) قال : نعم يا رسول الله ؛ إنما قال ذلك يتعوذ من القتل ، يستجير بها من القتل ، قال : (( أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله )) قال : نعم قالها يتعوذ من القتل . كرر ذلك عليه ، حتى قال له في رواية لمسلم : (( ما تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءتك يوم القيامة ؟ )) .
يقول أسامة رضي الله عنه : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل هذا اليوم ؛ لأنه لو كان كافراً ثم أسلم عفا الله عنه ، لكن الآن فعل هذا الفعل وهو مسلم ، فهذا مشكل جداً على أسامة .
والرسول صلى الله عليه وسلم يكرر : (( أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله )) . (( ما تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءتك يوم القيامة ؟ )) . مع العلم بأن الذي يغلب على الظن ما فهمه أسامة ؛ أنه قالها متعوذاً من القتل يستجير بها من القتل ، لكن مع ذلك إذا قال لا إله إلا الله انتهى الأمر ويجب الكف عنه ، ويعصم بذلك دمه وماله ، وإن كان قالها متعوذاً أو قالها نفاقاً ، فحسابه على الله .
فهذا دليل على أننا نحمل الناس في الدنيا على ظواهرهم ، أما ما في القلوب فموعده يوم القيامة ، تنكشف السرائر، ويحصل ما في الضمائر ، ولهذا علينا أيها الأخوة أن نطهر قلوبنا قبل كل شيء ثم جوارحنا .
أما بالنسبة لمعاملتنا لغيرنا ، فعلينا أن نعامل غيرنا بالظاهر . واسمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( إنكم تختصمون إلىّ )) يعني تخاصمون مخاصمات بينكم (( ولعل يعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض )) يعني أفصح وأقوى دعوى (( فأقضي له بنحو ما أسمع ، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له جمرة من نار ، فليستقل أو ليستكثر )) (241) .
فحمل النبي عليه الصلاة والسلام الأمر في الخصومة على الظاهر ، لكن وراءك النار إذا كنت كاذباً في دعواك ، وأنك أخذت القاضي بلسانك وبشهادة الزور ، فإنما يقتطع لك جمرة من النار فاستقل أو استكثر .
وخلاصة ما تقدم : أن الإنسان في الدنيا على الظاهر ، وأما يوم القيامة فعلى الباطن .
فعلينا نحن أن نعامل غيرنا يظهر لنا من حاله ، وأمره إلى الله ، وعلينا نحن أنفسنا أن نطهر قلوبنا ، لا يكون فيها شيء ؛ لا يكون فيها بلاء ، كبر ، حقد ، حسد ، شرك ، شك ، نسأل الله أن يعيذنا من هذه الأخلاق ، فإن هذا خطير جداً .
نسأل الله أن يهدينا وإياكم لأحسن الأخلاق والأعمال ، لا يهدي لأحسنها إلا هو ، وأن يجنبنا سيئات الأخلاق والأعمال ، ولا يجنبنا إياها إلا هو .



(234) رواه البخاري ، كتاب الإيمان فإن تابوا وأقاموا الصلاة . . . ،رقم (25) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، رقم (22) .
(235) رواه مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، رقم ( 23 ) .
(236) رواه البخاري ، كتاب المغازي ، باب شهود الملائكة بدراً ،رقم (4019) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله ، رقم (95).
(237) رواه البخاري ، كتاب الديات ، باب قول الله تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا ) ، رقم (6872 ) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب تحريم قنل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله ، رقم ( 96 ) .
(238) رواه البخاري ، كتاب استتابة المرتدين ، باب قتل الخوارج والملحدين ، رقم ( 6930 ) ، ومسلم ، كتاب الزكاة ، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ، رقم ( 1063 ، 1064 ) .
(239) رواه البخاري ، كتاب الحدود ، باب ما يكره من لعن شارب الخمر . . ، رقم ( 6780 ) .
(240) رواه البخاري ، كتاب الأحكام ، باب موعظة الإمام للخصوم ، رقم ( 7169 ) ، ومسلم ، كتاب الأقضية ، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة ، رقم ( 1713 ) .
(241) رواه البخاري ، كتاب الحيل ، باب في الهبة والشفعة ، رقم ( 6967 ) ، ومسلم ، كتاب الأقضية ، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة ، رقم ( 1713 ) .

الموضوع السابق


48 ـ باب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً)[الأحزاب:58] وقال تعالى : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ) (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) [الضحى: 9 ،10] . وأما الأحاديث ، فكثيرة منها : حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب قبل هذا : (( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب )) (231) . ومنها حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه السابق في (( باب ملاطفة اليتيم )) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم ، لقد أغضبت ربك )) (232) . 1/389 ـ وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من صلى صلاة الصبح ، فهو في ذمة الله ، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء ، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم )) رواه مسلم (233) .