6/417 ـ وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه ، وهو ممن شهد بدراً ، قال : كنت اصلي لقومي ببني سالم ، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار ، فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : إني أنكرت بصري ، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار ، فيشق علي اجتيازه ، فوددت أنك تأتي ، فتصلي في بيتي مكانا أتخذه مصلى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( سأفعل )) فغدا علي رسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق ، رضي الله عنه بعد ما أشتد النهار واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له ، فلم يجلس حتى قال : (( أين تحب أن أصلي من بيتك ؟ )) فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن أصلي فيه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر وصفننا وراءه فصلى ركعتين ، ثم سلم وسلمنا حين سلم فحبسته على خزيرة تصنع له ، فسمع أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي ، فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت فقام رجل : ما فعل مالك لا أراه ! فقال رجل : ذلك منافق لا يحب الله ورسوله ، فقال رجل : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تقل ذلك ، ألا تراه قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى ؟!)) . فقال : الله ورسوله أعلم ، أما نحن فو الله ما نرى وده ، ولا حديثه إلا إلى المنافقين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فإن الله قد حرم على النار من قال : لا إله إلا الله يبتغي يذلك وجه الله )) متفق عليه(264) . و(( عتبان )) بكسر العين المهملة ، وإسكان التاء المثناه فوق وبعدها باء موحدة . و (( الخريرة )) بالخاء المعجمة ، والري : هي دقيق يطبخ بشحم . وقوله : (( ثاب رجال )) بالتاء المثلثة ، أي : جاؤوا واجتمعوا . |
قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عتبان بن مالك رضي الله عنه ، وكان يؤم قومه بني سالم ، وكان بينه ؛ أي بين بيته وبين قومه وادٍ يعني شعيب يجري فيه السيل . فإذا جاء السيل ؛ شق عليه عبوره .
وأضف إلى ذلك أن بصره ضعف ، فصار يشق عليه مرتين ؛ من جهة المشي ، ومن جهة البصر والنظر . فجاء فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وطلب منه أن يأتي إلى بيته ليصلي في مكان من البيت ، يتخذه عتبان مصلى يصلي فيه ، وإن لم يكن مسجداً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( سأفعل )) ثم خرج هو وأبو بكر رضي الله عنه حين اشتد النهار ، وكان أبو بكر رفيقه حضراً وسفراً ، لا يفارقه ، كثيراً ما يكون معه ، وكثيراً ما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : جئت أنا وأبو بكر وعمر ، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، رجعت أنا وأبو بكر وعمر . فهما صاحباه ووزيراه رضي الله عنهما ، صاحباه في الدنيا ، وصاحباه في البرزخ ، وقريناه يوم القيامة هؤلاء الثلاثة يقومون لله رب العالمين من مكان واحد ، من البيت الذي دفن فيه الرسول عليه والصلاة والسلام ، والذي أصبح الآن في قرارة المسجد النبوي . انظر إلى الحكمة : اختار الله عز وجل أن يكون البيت الذي دفن فيه الرسول داخل المسجد ؛ ليقوم هؤلاء الثلاثة يوم القيامة من وسط المسجد ، مسجد النبي عليه والصلاة والسلام . وعلى هذا لا تكره شيئاً اختاره الله ، قد يختار الله شيئاً فيه مصلحة عظيمة لا تدري عنها أنت ، كره الناس أن يكون بيت الرسول الذي دفن فيه في وسط المسجد ، وقالوا : هذا شبهة لعباد القبور الذين يبنون المساجد على القبور . ولكن ليس في ذلك شبهة ؛ لأن المسجد لم يبن على القبر ، وإنما امتد المسجد وبقي القبر في البيت مستقلاً عن المسجد ، ليس فيه حجة لآي إنسان إلا رجلاً مبطلاً ، يقول كما قال إبليس : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) [االأعراف: 12] ، لكن انظر الحكمة ؛ أن يكون خروجهم يوم القيامة من مكان واحد ، من جوف المسجد النبوي ، سبحان الله العظيم ، حكمة تغيب عن كثير من الناس . والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين اشتد النهار ، يعني حين ارتفعت الشمس إلى دار بني مالك ، فاستأذن ، فأذن له ، فدخل ولم يجلس ؛ بل قال : أين تريد أن أصلي ؛ لأنه جاء لغرض ، فأحب أن يبدأ بالغرض الذي جاء من أجله قبل أي شيء ، وهذا من الحكمة ؛ أنك إذا أردت شيئاً لا تعرج إلى غيره حتى تنتهي منه من أجل أن تضبط الوقت ويبارك لك فيه . كثير من الناس تضيع عليه الأوقات بسبب أنه يتلقف الأشياء . وأضرب لهذا مثلاً : هب أنك تريد أن تراجع مسألة من مسائل العلم في كتاب من الكتب ، تقرأ الفهرس ؛ لأجل أن تعرف أين مكان هذه المسألة ، ثم تمر بك مسألة فتقول أريد أن أطلع على هذه المسألة ، ثم تطلع على الأخرى ، ويفوتك المقصود الذي من أجله راجعت هذا الكتاب . لكن ابدأ أولاً بما أردت قبل أي شيء ، ثم بعد ذلك ما زاد فهو فضل . فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان ، وصلوا معه جماعة ؛ لأن هذه جماعة عارضة لا دائمة . ثم لما فرغ من صلاته ، إذا هو قد أعد له طعاماً زهيداً ، فسمع أهل الدار . الدار هو ما نسميه عندنا بالحي والحارة ، سمع أهل الدار أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند عتبان بن مالك ، فثاب إليه أناس ، يعني اجتمعوا يريدون أن يهتدوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ، ويسمعوا من قوله ، ويأخذوا من سنته ، فاجتمعوا فقالوا : أين فلان ، قالوا : ذاك منافق . ذاك منافق . فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من قال ذلك وقال : (( لا تقل ذلك ، ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) . فقال الرجل : الله ورسوله أعلم ؛ لأن من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ؛ فهو مؤمن ليس منافقاً ، والمنافق يقولها رياء وسمعة ، لا تدخل قلبه و العياذ بالله ، أما من قالها يبتغي بها وجه الله ؛ فإنه مؤمن بها ، مصدق ، تدخل قلبه . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله )) فكل من قالها يبتغي بها وجه الله ، فإن الله يحرمه على النار ، لماذا ؟ لأنه إذا قالها يبتغي بها وجه الله ؛ فإنه سيقوم بمقتضاها ، ويعمل بما تقتضيه هذه الكلمة العظيمة ، من أداء الواجب ، وترك المحرم ، والإنسان إذا أدى الواجب وترك المحرم ؛ أحل الحلال ، وحرم الحرام ، وقام بالفرائض ، واجتنب النواهي ، فإن هذا من أهل الجنة ، يدخل الجنة ويحرم الله عليه النار . وليس في الحديث دليل على أن تارك الصلاة لا يكفر ؛ لأننا نعلم علم اليقين ، مثل الشمس ، أن من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله لا يمكن أن يترك الصلاة . هذا محال ؛ فالذي يقول : أنا لأقول لا إله إلا الله أبتغي بذلك وجه الله ، وهو لا يصلي ، فهو من أكذب الكاذبين . لو كان يبتغي وجه الله ؛ ما ترك الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين . وفي هذا الحديث فوائد : منها : أن من كانت حاله مثل حال عتبان بن مالك ، فإنه معذور بترك الجماعة وله أن يصلي في بيته ، مثل أن يكون بينه وبين المسجد وادٍ لا يستطيع العبور معه ، فإنه معذور . ومنها : جواز قول الإنسان سأفعل في المستقبل ، إذا قال ستأتينا غداً ، قال : سآتيك وإن لم يقل إن شاء الله . فإن قال قائل : ما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى : ( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً) (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) [الكهف: 23 ، 24] ، لشيء : عام سواء من فعل الله أو من فعلك ؟ قلنا : إن الذي يقول سآتيك غداً له نيتان : النية الأولى : أن يقول هذا جازماً بالفعل ، فهذا لا يقوله إلا أن يقول إن شاء الله ؛ لأنه لا يدري أيأتي عليه الغد أو لا ، ولا يدري هل إذا أتى عليه الغد يكون قادراً على الإتيان إليه أو لا ، ولا يدري إذا كان قادراً ، يحول بينه وبينه مانع أو لا . النية الثانية : إذا قال : سأفعل ، يريد أن يخبر عما في قلبه من الجزم دون أن يقصد الفعل ؛ فهذا لا بأس به ؛ لأنه يتكلم عن شيء حاضر ، مثل : لو قيل لك : هل ستسافر مكة ؟ قلت : نعم سأسافر ، تريد أن تخبر عما في قلبك من الجزم ، هذا شيء حاضر حاصل ، أما إن أردت الفعل ، أنك ستفعل يعني سيقع منك هذا لا تقل سأفعل إلا مقروناً بمشيئة الله . ومنها : أن الإنسان يعذر بترك الجماعة فيما إذا كان بينه وبين المسجد ما يشق عليه من وحل أو ماء أو غيره ، وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ينادي مناديه في الليلة المطيرة ؛ أن صلوا في رحالكم يعني في أماكنكم ، وذلك من أجل أن لا يشق على الناس ، فأما إذا كان ماء بلا مشقة وبلا دحر ووحل ؛ فإنه لا يعذر الإنسان بترك الجماعة . ومن فوائد حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه : أن المصلى الذي يكون في البيت لا يكون له حكم المسجد ، فلو أن الإنسان اتخذ مصلى في بيته لا يصلي إلا فيه فليس بمسجد ، سواء حجره أو لم يحجره . وعلى هذا فلا تثبيت له أحكام المسجد ؛ فيجوز للإنسان أن يبقى فيه وهو جنب ، وإذا جلس فيه لا يلزمه تحية المسجد ، فكل أحكام المساجد لا تثبت له ، وإذا أراد أن يعتكف فيه ؛ لم يصح اعتكافه . حتى لو كانت امرأة ولها مسجد في بيتها ، فإنها لا تعتكف فيه . ومن فوائد حديثه رضي الله عنه : أنه يجوز أن تقام الجماعة في النوافل ؛ لكن ليس دائماً بل أحياناً ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراه عتبان المكان الذي يصلي فيه ، وتقدم وصلى بهم ركعتين وصلوا خلفه ، فإذا صلى الإنسان الراتبة مثلاً أو سنة الضحى ، إذا صلاها جماعة ؛ فلا بأس بذلك أحياناً . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى معه ابن عباس رضي الله عنهما صلاة الليل ، وصلى معه ابن مسعود ، وصلى معه حذيفة ، لكن ليس دائماً . فصلاة الجماعة نفلا أحياناً لا بأس بها . ومن فوائد هذا الحديث : أنه لا بأس أن يتخذ الإنسان مصلى يعتاد الصلاة فيه في بيته ، و لا يقال إن هذا مثل اتخاذ مكان معين في المسجد لا يصلي إلا فيه ، فإن هذا منهي عنه ، يعني ينهى الإنسان أن يتخذ في المسجد مكاناً لا يصلي إلا فيه ، مثل أنه لا يصلي النافلة ، لا تحية المسجد ولا غيرها إلا فيه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استيطان كاستيطان البعير ، يعني عن اتخاذ موطن كأعطان الإبل ، تأوي إليه وتبيت فيه . ومنها : أنه يجب على الإنسان أن يحبس لسانه عن الكلام في الناس ، بنفاق ، أو كفر أو فسق ، إلا ما دعت الحاجة إليه ، فإنه لا بد أن يبينه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال رجل عن مالك : إنه منافق ، قال : (( لا تقل هكذا ؛ أما علمت أنه قال : لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ؟ )) . لكن هذا متى يحصل أن يشهد الرسول عليه الصلاة والسلام لرجل بالإخلاص ؛ هو ليس بحاصل بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام ، إنما ليس لنا إلا الظاهر ، فمن طهر لنا من حاله الصلاح ؛ وجب علينا أن نحكم له بالصلاح ، وألا نغتابه ولا نسبه . ومن فوائد هذا الحديث : محبة الصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والجلوس إليه ؛ لأنهم لما علموا أنه عند عتبان بن مالك ثابوا إليه ، واجتمعوا عنده ، ليتعلموا منه ، وينالهم من بركة علمه عليه الصلاة والسلام . ومنها : ما سبق أن أشرنا إليه أن الإنسان يبدأ بالشغل الذي يريده قبل كل شيء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المكان قبل أن يجلس ، وقبل لأن ينظر إلى ما صنع له من الطعام . ومن فوائده أيضاً : أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان على جانب كبير من التواضع ؛ لأنه لما انتهى من الصلاة ، يقول عتبان : حبسته على (خريرة ) نوع من الطعام ليس بذاك الجيد . حبسه : يعني قال له انتظر حتى ينتهي الطعام ، ويقدمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا لا شك أن فيه تواضعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومنها : وهي من أكبر فوائد هذا الحديث . أن من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ، فإن الله يحرم عليه النار (( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله )) يعني يطلب وجه الله . ومعلوم أن الذي يقول هذا طالباً وجه الله ، فسيفعل كل شيء يقربه إلى الله ، من فروض ونوافل ، فلا يكون في هذا دليل للكسالى والمهملين ؛ يقولون : نحن نقول لا إله إلا الله نبتغي بذلك وجه الله . نقول : لو كنتم صادقين ما أهملتم العبادات الواجبة عليكم . (264) رواه البخاري ، كتاب الصلاة ، باب المساجد في البيوت ، ( 425 ) ، ومسلم ، كتاب المساجد ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة ، رقم (33) [263 ] . |