1/457- عن عمرو بن عوفِ الأنصاري رضي الله عنهُ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصارُ بقُدوم أبي عُبيدةَ ، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف، فتعرضوا لهُ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال:" أظنكم سمعتُم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟" فقالوا: أجل يا رسول الله ، فقال: "أبشرُوا وأملُوا ما يسركم، فو الله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنى أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم" متفق عليه. 2/458- وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المِنبر، وجلسنا حولهُ، فقال:" إن مما أخافُ عليكم من بعدي ما يفتحُ عليكم من زهرة الدنيا وزينتها" متفق عليه 3/459- وعنه رضي اللهُ عنهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الدنيا حُلوة خضرةٌ، وإن الله تعالى مُستخلفكم فيها فينظرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء" رواه مسلم
 
هذه الأحاديث ذكرها المؤلف رحمه الله في باب الزهد في الدنيا والترغيب فيه، وقد ذكر قبل ذلك آيات متعددة كلها تدل على أن هذه الدنيا ليست بشيء بالنسبة للآخرة، وأنها ممر ومزرعة للآخرة، فإن قال قائل: يقال ورع، ويُقال زهد، فأيهما أعلى؟ وما الفرق بينهما؟
فالجواب أن الزهد أعلى من الورع، والفرق بينهما أن الورع ترك ما يضر، والزهد ترك ما لا ينفع، فالأشياء ثلاثة أقسام: منها ما يضر في الآخرة، ومنها ما ينفع، ومنها ما لا يضر ولا ينفع.
فالورع: أن يدع الإنسان ما يضره في الآخرة، يعني أن يترك الحرام.
والزهد: أن يدع ما لا ينفعه في الآخرة، فالذي لا ينفعه لا يأخذ به، والذي ينفعه يأخذ به، والذي يضره لا يأخذ به من باب أولى، فكان الزهد أعلى حالاً من الورع، فكل زاهد ورع، وليس كل ورع زاهداً.
ولكن حذر النبي عليه الصلاة والسلام من أن تفتح الدنيا علينا كما فتحت على من كان قبلنا فنهلك كما هلكوا.
لما قدم أبو عبيدة بمال من البحرين، وسمع الأنصار بذلك، جاءووا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافوه في صلاة الفجر ، فلما انصرف من الصلاة تعرضوا له فتبسم عليه الصلاة والسلام، يعني ضحك، لكن بدون صوت، تبسم لأنهم جاءوا متشوفين للمال.
فقال لهم :" لعلكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة من البحرين؟" قالوا: أجل يا رسول الله . سمعنا بذلك يعني وجئنا لننال نصيبنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: "ما الفقر أخشى عليكم" الفقر لا أخشاه .
والفقر قد يكون خيراً للإنسان، كما جاء في الحديث القدسي الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال:" إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى"، يعني : أطغاه وأضله وصده عن الآخرة والعياذ بالله ففسد،" وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده الفقر".
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما الفقر أخشى عليكم" يعني: لا أخشى عليكم من الفقر؛ لأن الفقير في الغالب أقرب إلى الحق من الغني.
وانظروا إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ من الذي يكذبهم؟ يكذبهم الملأ الأشرار الأغنياء، وأكثر من يتبعهم الفقراء، حتى النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من يتبعه الفقراء.
فالفقر لا يخشى منه ، بل الذي يخشى منه أن تبسط الدنيا عليهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:" أخشى أن تبسط عليكم - يعني كما بسطت على من كانوا قبلنا، فتهلككم كما أهلكتهم".
وهذا هو الواقع، وأنظر إلى حالنا نحن هنا- يعني في المملكة- لما كان الناس إلى الفقر أقرب، كانوا لله أتقى وأخشع وأخشى، ولما كَثُر المال؛ كثُر الإعراض عن سبيل الله ، وحصل الطغيان، وصار الإنسان الآن يتشوف لزهرة الدنيا وزينتها... سيارة ، بيت، فرش، لباس، يباهي الناس بهذا كله، ويعرض عما ينفعه في الآخرة.
وصارت الجرائد والصحف وما أشبهها لا تتكلم إلا بالرفاهية وما يتعلق بالدنيا، وأعرضوا عن الآخرة، وفسد الناس إلا من شاء الله.
فالحاصل أن الدنيا إذا فتحت- نسأل الله أن يقنا وإياكم شرها - أنها تجلب شرًّاً وتطغي الإنسان (كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى) (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7،6).
وقد قال فرعون لقومه : (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) (الزخرف:51) ، افتخر بالدنيا ، فالدنيا خطيرة جداً.
وفي هذه الأحاديث أيضاً قال النبي عليه الصلاة والسلام:" إن الدنيا حلوة خضرة" حلوة المذاق، خضرة المنظر، تجذب وتفتن، فالشيء إذا كان حلواً ومنظره طيباً فإنه يفتن الإنسان، فالدنيا هكذا حلوة خضرة حلوة في المذاق، خضرة في المنظر.
ولكن: " وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون" يعني جعلكم خلائف فيها؛ يخلف بعضكم بعضاً، ويرث بعضكم بعضاً." فينظر كيف تعملون" هل تقدمون الدنيا أو الآخرة؟، ولهذا قال: " فاتقوا الدنيا واتقوا النساء".
ولكن إذ1 أغنى الله الإنسان ، وصار غناه عوناً له على طاعة الله ، ينفق ماله في الحق؟، وفي سبيل الله؛ صارت الدنيا خيراً.
ولهذا كان رجل الدنيا الذي ينفق ماله في سبيل الله، وفي مرضاة الله عز وجلّ، صار ثاني اثنين بالنسبة للعالم الذي آتاه الله الحكمة والعلم وصار يعلم الناس.
فهناك فرق بي الذين ينهمك في الدنيا ويعرض عن الآخرة، وبين الذي يغنيه الله، ويكون غناه سبباً للسعادة والإنفاق في سبيل الله ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة: 201)

الموضوع التالي


4/460- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة". متفق عليه . 5/461- وعنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يتبع الميت ثلاثةٌ: أهلهُ ومالهُ وعملهُ: فيرجع اثنان، ويبقي واحد ؛ يرجعُ أهلهُ ومالهُ ويبقى عملهُ" متفق عليه. 6/462- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( يؤتى بأنعمِ أهلِ الدنيا من أهل النارِ يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقالُ: يا ابن آدم ؛ هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بُوساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنةِ فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شِدة قط؟ فيقول لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيتُ شِدةً قط" رواه مسلم. 7/463- وعن المستورد بن شداد رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعلُ أحدكم أصبعه في اليم، فينظر بما يرجع؟" رواه مسلم. 8/464- وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفتية، فمر بجدي أسك ميتٍ ، فتناولهُ ، فأخذ بأذُنهِ، ثم قال:" أيكم يجبٌ أن يكون هذا لهُ بدرهمٍ؟" فقالوا ما نُحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ ثم قال": أتحبون أنهُ لكم؟" قالوا: والله لو كان حيا كان عيباً؛ أنه أسكٌ فكيف وهو ميت؟ فقال: فو الله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" رواه مسلم.

الموضوع السابق


55- باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها، وفضل الفقر قال الله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (يونس:24) وقال تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (الكهف: 45،46) وقال تعالي: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20) وقال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14) وقال تعالي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (فاطر:5) وقال تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) (1) (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (2) (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (3) (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (4) (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (5) التكاثر :1-5). وقال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:64)