قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:9-11). وقال تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ) (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) (قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:99-115)
 
قال المؤلف رحمه الله محيي الدين النووي في كتابه رياض الصالحين في باب ذكر الموت وقصر الأمل قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون:10-11).
أمر الله بالإنفاق مما رزقنا، أي مما أعطانا، وحذرنا مما لابد منه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وحينئذٍ يندم الإنسان على عدم الإنفاق ويقول: ( رب لولا أخرتني إلى أجل قريب) يتمنى أن الله يؤخره إلى أجل قريب ( فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني : فبسبب تأخيرك إياي أتصدق وأكن من الصالحين.
قال الله عز وجلَّ: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ( المنافقون :11) إذا جاء الأجل لا يمكن أن يتأخر الإنسان ولا لحظة واحدة، بل لابد أن يموت في المدة التي عيّنها الله عز وجل على حسب ما تقتضيه حكمته.
فمن الناس من يطول بقاؤه في الدنيا، ومن الناس من يقصر، كما أن من الناس من يكثر رزقه، ومنهم من يقل، ومنهم من يكثر علمه، ومنهم من يقل، ومنهم من يقوى فهمه، ومنهم من يضعف، ومنهم من يكون طويلاً ، ومنهم من يكون قصيراً، فالله عزّ وجلّ خلق عباده متفاوتين في كل شيء.
وقال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون:9) فنهى الله تعالى أن تلهينا أموالنا وأولادنا عن ذكر الله، وبين أن من ألهته هذه الأشياء عن ذكر الله؛ فهو خاسر مهما ربح.. ولو ربح أموالاً كثيرة، وكان عنده بنون، وكان عنده أهل، ولكنه قد تلهى بهم عن ذكر الله فإنه خاسر.
إذاً من هو الرابح؟ الرابح من اشتغل بذكر الله عز وجل. وذكر الله ليس هو قول : لا إله إلا الله فقط؛ بل كل قول يقرب إلى الله فهو ذكر له، وكل فعل يقرب إلى الله فهو ذكر له ، كما قال الله تعالى ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(العنكبوت:45)
ولأن الإنسان إذا قال قولاً يتقرب به إلى الله ، أو فعل فعلاً يتقرب به إلى الله؛ فهو حين النية ذاكر لله عز وجل، فذكر الله يشمل كل قول أو فعل يقرّب إليه.
قال : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت) (المؤمنون:99،100) فقوله(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) أي إذا جاء أحد المكذبين للرسل إذا جاء أحدهم الموت َ(قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ)ارجعوني إلى الدنيا (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت). ولم يقل لعلي أتمتع في قصورها وحبورها ونسائها وغير ذلك؛ بل قال (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ )، أي : فيما تركت من المال الذي بخلت به حتى أنفقه في سبيل الله.
قال الله تعالى ( كَلَّا ) يعني : لا رجوع ولا يمكن الرجوع؛ لأنه إذا جاء الأجل (ْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(يونس: 49)
ثم قال ( إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)هذه الكلمة يؤكد الله عز وجل أنه يقولها وهي قوله: ( رَبِّ ارْجِعُونِ)(لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) ، (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يعني: من أمام هؤلاء الذي حضرتهم الوفاة (بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
والبرزخ هو الفاصل بين الدنيا وبين قيام الساعة، وسواء كان الإنسان مدفوناً في الأرض أو على ظهر الأرض تأكله السباع وتتلفه الرياح، أو كان في قاع البحار؛ كل هذا يسمى برزخاً (بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يعني: يخرجون من القبور لله عز وجل في يوم القيامة.
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّور) وذلك عند قيام الساعة (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُون) والنفخ في الصور مرتان:
النفخة الأولى: يكون فيها الفزع والصعق يعني الموت، فينفخ إسرافيل في الصور نفخة يكون لها صوت عظيم مزعج جداً، فيفزع الناس ثم يموتون كلهم إلا ما شاء الله.
والنفخة الثانية: ينفخ في الصور فتخرج الأرواح من الصور وتعود إلى أجسادها، وهذه التي يكون بها الحياة الأبدية التي لا موت بعدها.
(فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُون) يعنى بعد أن يبعثوا من قبورهم لا تنفعهم الأنساب والقرابات (وَلا يَتَسَاءَلُون) لا يسأل بعضهم عن بعض؛ بل إن الله تعالى يقول: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) (وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس:34-37) .
فالأنساب في ذلك الوقت لا تنفع، والقرابات لا يتساءلون عن بعضهم ، بينما في الدنيا يسأل بعضهم عن بعض، ما الذي حصل لهذا؟ ما الذي حصل لهذا؟ ماذا فعل فلان؟ أما في الآخرة فـ (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه)( عبس :37).
قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المؤمنون :101،102) فينقسم الناس في ذلك اليوم إلى قسمين : قسم تثقل موازينه فهذا مفلح، فائز بما يحب، ناج مما يكره.
والموازين جمع ميزان، قد وردت في الكتاب والسنة مجموعة ومفردة، فقال الله تعالى هنا (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُه)(المؤمنون: 102)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) ، فقال: في الميزان ولم يقل في الموازين، فجمعت مرة وأفردت أخرى، وذلك لكثرة ما يوزن، فلكثرة ما يوزن جمعت، ولكون الميزان واحداً ليس فيه ظلم ولا بخس أفردت.
وأما الذي يوزن فقد قال بعض العلماء: إن الذي يوزن هو العمل، وقال بعض العلماء: الذي يوزن العامل نفسه، وذلك لأن كلاًّ منها جاءت به أحاديث.
أما الذين يقولون: إن الذي يوزن هو العمل، فاستدلوا بقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7،8)، فجعل الوزن للعمل، وبقول النبي عليه الصلاة والسلام (( كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان)) . فجعل الثقل للكلمتين وهما العمل.
والذين قالوا: إن الذي يوزن صحائف العمل استدلوا بحديث صاحب البطاقة، الذي يأتي يوم القيامة فيمدّ له سجل يعني أوراقاً كثيرة مد البصر كلها سيئات، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله له: ((إن لك عندنا حسنة فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله)) قالها من قلبه فتوضع البطاقة في كفة، وتلك السجلات في كفة، فترجح البطاقة بها، فهذا يدل على أن الذي يوزن هو صحائف العمل.
وأما الذين قالوا: إن الذين يوزن هو العامل نفسه، فاستدلوا بقوله تعالى ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)(الكهف: 105).
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين ضحك الناس على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكان رضي الله عنه نحيفاً، فقام إلى شجرة أراك في ريح شديدة، فجعلت الريح تهزهزه هزاً فضحك الناس من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( أتضحكون ، أو قال صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من دقة ساقية، والذي نفس بيده إنهما في الميزان لأثقل من جبل أحد)) وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل نفسه. والمهم أنه يوم القيامة توزن الأعمال أو صحائف الإعمال أو العمال، (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) ( المؤمنون : 102، 103)
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ثقلت موازينهم، ومن المفلحين الفائزين برضوان الله . والله الموفق.

الموضوع التالي


وقوله سبحانه وتعالى: (فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) إنما قال خسروا أنفسهم؛ لأنهم أخرجوا إلى الدنيا وجاءتهم الرسل وبينت لهم الحق، ولكنهم والعياذ بالله عاندوا واستكبروا فخسروا أنفسهم ولم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئاً، قال الله تعالى ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر: 5). ثم قال تعالى مبيناً إنهم كما يعذبون بدنياً ، فإنهم يعذبون قلبياً، فيقرعون ويوبخون فيُقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ) (المؤمنون :105)، فقد تليت عليهم آيات الله، وبينت لهم، وجاءتهم الرسل بالحق، ولكنهم كفروا والعياذ بالله، وكذبوا بهذه الآيات. قالوا في الجواب (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ) (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا) يعني: إن عدنا إلى التكذيب (فَإِنَّا ظَالِمُونَ) ، فيقرون والعياذ بالله بأن الشقاوة غلبت عليهم وأنهم ضلوا الضلال المبين الذي أوصلهم إلى هذه النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها.